[ALIGN=CENTER]للعاقلات فقط

100 وقفة تربوية للمرأة

مع الرسول صلى الله عليه وسلم

تأليف

جمال عبدالرحمن



إهـداء[/ALIGN]



[COLOR=blue][ALIGN=CENTER][ALIGN=CENTER][ALIGN=CENTER]
أهدي هذا الكتاب إلى واحدة من العاقلات- أحسبها من الصالحات ولا أزكي على الله أحدا- هي أم العيال وربة البيت، هي أم محمد "زوجتي"- حفظها الله-.

تلك المرأة التي لا تحب شيئا من الدنيا مثلما أحبت تعلم القرآن وتعليمه وتلاوته، فقد قامت بتحفيظ خمسة من أولادي وبناتي كتاب الله في سن أقل من عشر سنوات، ولم تكن يوم تزوجتها تحفظ القرآن كله، لكنها لكثرة إشرافها على تحفيظ الأسرة، لا يخطئ أحد منا أمامها في أي سورة إلا ردته وراجعته، وغير هذا، قامت بتحفيظ جميع أفراد الأسرة " الأربعين حديثا النووية " و"الأسماء الحسنى"، و"المنظومة البيقونية"، و"منظومة سلم الوصول " التي بها مئات الأبيات، وتشرف على ذلك كله من حين لآخر لكافة الأسرة، حتى من تزوج من البنات، وختمت تحفيظ القرآن لنساء من خارج الأسرة، وتراجعه في رمضان أكثر من ثلاث ختمات.

وسبب توفيقها في ذلك الله جل وعلا، الذي يسر لها اغتنام فترة البكور بعد صلاة الفجر، فهي لا تفوتها ولو كانت مريضة، ولو كانت ليلة ولادتها.

وهي بجانب ذلك تذاكر لصغارنا دروسهم في المدرسة الابتدائية التي تعلمتها، فقد تزوجتها تحمل الشهادة الابتدائية فقط، لكن الله أكثر، فهي ربة البيت، وخادمة الجميع، تستقبل ضيوفها، وتربي أولادها، وتعمل عمل أهلها، فالله يسعدها ويرزقها سعادة الدارين. إنه على كل شيء قدير



مـقدمة



الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه... وبعد:

فإن العقل أصل الفضائل، وينبوع الآداب، وخير المواهب؛ وأفضل رزق الوهاب، وصدق القائل:



وأفضل قسم الله للمرء عقله فليس من الأشياء شيء يقاربه

إذا أكمل الرحمن للمرء عقله فقد كملت أخلاقه ومآربه



وبالعقل تعرف حقائق الأمور، ويفصل بين الخيرات والشرور، إذا تم في الإنسان سمي عاقلا، وكان نصيبه من الرشد كاملا.

والعاقل من عقل عن الله أمره ونهيه، واتبع النبي صلى الله عليه وسلم واقتفى أثره، واجتنب محارم الله، وأدى فرائضه جل وعلا، ثم تنفل بالصالحات وتزود من فعل الخيرات.

وشر البلية والمصائب، إهمال العقل، وإلغاء الفهم، فهو السبيل إلى جهنم، وقد قال الله تعالى عن أهل النار: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10].

وفي كتابنا هذا نتعرض لنماذج من سير أعلام العقلاء، ليس من الرجال، ولكن من النساء؛ لترى كل مسلمة فيها القدوة الحسنة والسيرة العطرة، ومن هنا تحدد موقفها بصراحة ووضوح، هل استعملت عقلها أم ألغت فهمها؟ هل تزداد من الله قربا، أم تزداد عنه بعدا؟

والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل.



المؤلف



1- العاقلة ومراقبة ربها



ذكر ابن كثير رحمه الله في تفسيره لقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ...} [البقرة:226] قصة في المراقبة لله والخوف منه، حدثت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد كان يعس بالمدينة كعادته، فسمع امرأة كان زوجها قد خرج غازيا في جيش عمر، تقول:



طال هذا الليل وازور جانبه وليس إلى جنبي خليل ألاعبه

فوالله لولا الله أني أراقـبه لحرك من هذا السرير جوانبه

مخافة ربي والحياء يصدني وأكرم بعلي أن تنال مراكبه

فمراقبة تلك المرأة ربها وخشيتها إياه كانت حائلا بينها وبين دخول أجنبي عليها.



2- العاقلة والثقة فيما عند الله



روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء إبراهيم عليه السلام بأم إسماعيل " هاجر " وابنها إسماعيل، وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت عند دوحة " شجرة" فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هناك، ووضع عندهما جرابا (كيسا) فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفي إبراهيم عليه السلام منطلقا، فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟! قالت له ذلك مرارا وهو لا يلتفت إليها!! فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذا لا يضيعنا.

فهل ضيعها الله؟ كلا " لقد أكرمها إكراما تتحدث به الدهور والأيام والخلق والأنام؟! فالله لا يضيع أجر المحسنين ولا إيمان المؤمنين.

وهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها سألها مسكين وهي صائمة وليس في بيتها إلا رغيف، فقالت لمولاة لها: أعطيه إياه، فقالت: ليس لك ما تفطرين عليه، فقالت: أعطيه إياه، ففعلت، قالت: فلما أمسينا أهدى لنا أهل بيت أو إنسان ما كان يهدى لنا، شاة وكفنها، فدعتني عائشة فقالت كلي من هذا فهذا خير من قرصك.

قال العلماء: هذا من المال الرابح والفعل الزاكي عند الله تعالى، يعجل منه ما يشاء ولا ينقص ذلك مما يدخر عنده، ومن ترك شيئا لله لم يجده فقده، وعائشة رضي الله عنها في فعلها هذا من الذين أثنى الله عليهم بأنهم يؤثرون على أنفسهم مع ما هم فيه من الخصاصة، وأن من فعل ذلك فقد وقي شح نفسه، وأفلح فلاحا لا خسارة بعده، ومعنى شاة وكفنها، فإن العرب أو بعض العرب أو بعض وجوههم كان هذا من طعامهم، يأتون إلى الشاة أو الخروف إذا سلخوه غطوه كله بعجين البر، وكفنوه به ثم علقوه في التنور فلا يخرج من ودكه شيء إلا في ذلك الكفن، وذلك من طيب الطعام عندهم.



3- العاقلة وثمرة حفظها لربها



عن أنس قال: قال صلى الله عليه وسلم: " صنائع المعروف تقي مصارع السوء، والآفات والهلكات، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة ".

انظري يا أختاه لما صنعته أم شريك من المعروف.

عن ابن عباس قال: وقع في قلب أم شريك الإسلام وهي بمكة وهي إحدى نساء قريش ثم إحدى بني عامر بن لؤي، فأسلمت، ثم جعلت تدخل على نساء قريش سرا فتدعوهن وترغبهن في الإسلام، حتى ظهر أمرها لأهل مكة، فأخذوها وقالوا لها: لولا قومك لفعلنا بك وفعلنا، ولكنا سنردك إليهم، قالت: فحملوني على بعير ليس تحتي شيء موطأ ولا غيره، ثم تركوني ثلاثا لا يطعمونني ولا يسقونني، قالت: فما أتت علي ثلاث حتى ما في الأرض شيء أسمعه، فنزلوا منزلا وكانوا إذا نزلوا أوثقوني في الشمس واستظلوا وحبسوا عني الطعام والشراب حتى يرتحلوا، فبينما أنا كذلك إذ أنا بأثر شيء علي برد منه، ثم رفع، ثم عاد فتناولته، فإذا هو دلو ماء، فشربت منه قليلا، ثم نزع مني، ثم عاد فتناولته فشربت منه قليلا، ثم رفع، ثم عاد أيضا، ثم رفع، فصنع ذلك مرارا، حتى رويت، ثم أفضت سائره على جسدي وثيابي، فلما استيقظوا، فإذا هم بأثر الماء، ورأوني حسنة الهيئة، فقالوا لي: انحللت فأخذت سقاءنا فشربت منه؟ فقالت: لا والله ما فعلت ذلك، كان من الأمر كذا وكذا، فقالوا لئن كنت صادقة فدينك خير من ديننا، فنظروا إلى الأسقية فوجدوها كما تركوها، وأسلموا بعد ذلك.



4- العاقلة والحرص على طلب العلم والسؤال عن الدين



جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ذهب الرجال بحديثك- أي سمعوه وتعلموه- فاجعل لنا من نفسك يوما نأتي فيه تعلمنا مما علمك الله، فقال عليه الصلاة والسلام: " اجتمعن يوم كذا وكذا " فاجتمعن، فجاء صلى الله عليه وسلم فعلمهن مما علمه الله (رواه مسلم).

وهذه بعض أسئلة نسائية:

- عن أسماء بنت أبي بكر قالت: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن ابنتي أصابتها الحصبة فتمرق شعرها- تقصف وسقط- وإني زوجتها، أ فأصل فيه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " لعن الله الواصلة والموصولة " (البخاري ومسلم) يعني صاحبه الشعر والتي تصل لها.

- امرأة أخرى تسأل عن كيفية غسل الشعر عند الاغتسال، فتقول: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي- أجعله ضفائر- أ فأنقضه للجنابة؟ يعني أ أفكه؟ قال: " إنما يكفيك أن تحثي عليه ثلاث حثيات من ماء ثم تفيضي على سائر جسدك؛ فإذا أنت قد طهرت " (مسلم وغيره).

وسألتني إحدى النساء؛ ماذا تفعل لكي تمسح برأسها أثناء الوضوء لأنها لو مسحت برأسها مدبرة مقبلة بيدها يتفرق شعرها ويسبب لها مشقة؟

وأجبتها بما ذكره الشوكاني في " نيل الأوطار ": عن الربيع بنت معوذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ عندها ومسح برأسه، فمسح الرأس كله من فوق الشعر، كل ناحية لمنصب الشعر، لا يحرك الشعر عن هيئته(رواه أحمد وأبو داود وقال الألباني في صحيح أبي داود:حسن). وفي هذا بلا شك تيسير عظيم.

- وها هي أم سليم رضي الله عنها تسأل النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إن الله لا يستحي من الحق، فهل على المرأة غسل إذا هي احتلمت؟ قال: " نعم، إذا رأت الماء ". متفق عليه.

ومن عظيم الأسئلة التي وجهت للنبي صلى الله عليه وسلم وتحمل الدلالة على الفقه والحس الديني، هذا السؤال: وفيه أن أسماء بنت يزيد بن السكن رضي الله عنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إني رسول من ورائي من جماعة نساء المسلمين، كلهن يقلن بقولي، وعلى مثل رأيي، إن الله بعثك إلى الرجال والنساء، فآمنا بك واتبعناك، ونحن معشر النساء مقصورات مخدرات (في الخدر وهو الستر) قواعد بيوت، وإن الرجال فضلوا بالجمعات، وشهود الجنائز والجهاد، وإذا خرجوا للجهاد حفظنا لهم أموالهم، وربينا أولادهم، أ فنشاركهم في الأجر يا رسول الله؟ فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه فقال: " هل سمعتم مقالة امرأة أحسن سؤالا عن دينها من هذه؟ " فقالوا: بلى يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انصرفي يا أسماء، وأعلمي من وراءك من النساء أن حسن تبعل- أي معاشرة- إحداكن لزوجها وطلبها لمرضاته، وإتباعها لموافقته يعدل كل ما ذكرت ". فانصرفت أسماء وهي تهلل وتكبر استبشارا بما قال لها عليه الصلاة والسلام.

لماذا فرحت أسماء رضي الله عنها؟

لأنها رأت فضل الله عز وجل وهو القائل:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]. فالأجر الذي تناله المرأة في ترتيب مسكنها وتربية أولادها، ورعاية بيت زوجها وماله يعدل أجر المجاهد في جهاده ويعدل شهود الرجل الجمع والجماعات، كما تبين من الحديث. وأخرى من العاقلات تطلب العلم وتستفسر عن حقوق الزوج وعدم غشه:

فعن سلمى بنت قيس وكانت إحدى خالات رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلت معه القبلتين، وكانت إحدى نساء بني عدي بن النجار، قالت: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته في نسوة من الأنصار، فلما شرط علينا أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصي في معروف، قال: " ولا تغششن أزواجكن "، قالت: فبايعناه، ثم انصرفنا، فقلت لامرأة منهن: ارجعي فسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما غش أزواجنا؟ قال: " تأخذ ماله فتحابي به غيره ". (رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني ورجاله ثقات)

وقد ذكر الحافظ ابن عساكر- وهو أحد رواة الحديث- أن عدد شيوخه وأساتذته من النساء كان بضعا وثمانين أستاذة.



5- العاقلة ومعالجة مشاكل الحيض والاستحاضة



جاءت امرأة وهي خولة بنت يسار تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إني امرأة أحيض وليس عندي غير ثوب واحد فلا أدري كيف أصنع يا رسول الله- أي عند الصلاة-؟ فقال: " إذا تطهرت فاغسلي ثوبك ثم صلي فيه ". قلت: يا رسول الله، إني أرى الدم فيه، فقال: " اغسليه ولا يضرك أثره " (صحيح أبي داود للألباني).

سبحان الله! لا تملك غير ثوب واحد تحيض فيه وتصلي فيه!! ونساء كثيرات في هذا الزمن امتلأت بيوتهن بالثياب، بل لا تقبل الواحدة منهن أن تكرر لبس الثوب في مناسبتين، ولا بد من ثوب جديد، والنبي صلى الله عليه وسلم دعا بالتعسة والنكسة على عباد الثياب، عباد الموضة، واللاهثات خلف كل جديد، فقال صلى الله عليه وسلم: " تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتفش" (رواه البخاري عن أبي هريرة) أي: إذا أصيب بشوكة فلا برأ منها.

والحديث يعم الرجال والنساء، ولا نحرم زينة الله التي أخرج لعباده، ولكن نقول فقط: هل من تعظم الدنيا إلى هذا الحد تعظم دينها وتقف عند حدوده؟!

وفي شأن الاستحاضة- وهي استمرار نزول الدم على المرأة وجريانه في غير أوانه-، فقد قالت حمنة بنت جحش: كنت أستحاض حيضة كثيرة شديدة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أستفتيه وأخبره، فوجدته في بيت أختي زينب بنت جحش، فقلت: يا رسول الله، إني امرأة أستحاض حيضة كثيرة شديدة، فما ترى فيها؟ قد منعتني الصلاة والصوم، فقال: ((أنعت لك الكرسف فإنه يذهب الدم "، قالت: هو أكثر من ذلك، قال: " فاتخذي ثوبا "، فقالت: هو أكثر من ذلك، إنما أثج ثجا، قال صلى الله عليه وسلم أجزأ عنك من الآخر، وإن قويت عليهما فأنت أعلم ". قال لها: " إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان، فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله، ثم اغتسلي حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت فصلي ثلاثا وعشرين ليلة، أو أربعا وعشرين ليلة وأيامها وصومي فإن ذلك يجزيك، وكذلك فافعلي في كل شهر كما تحيض النساء وكما يطهرن ميقات حيضهن وطهرهن، وإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر فتغتسلين وتجمعين بين الصلاتين الظهر والعصر، وتؤخرين المغرب وتعجلين العشاء، ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي، وتغتسلين مع الفجر فافعلي وصومي إن قدرت على ذلك ". قال صلى الله عليه وسلم: " وهذا أعجب الأمرين إلي ". قال الخطابي تعليقا على الحديث: إنما هي امرأة مبتدأة- يعني من يوم بلغت المحيض وهي على هذه الحال فلم تجرب أيام الحيض بعددها- لم يتقدم لها أيام ولا هي مميزة لدمها- يعني لون دم الحيض من دم الاستحاضة، وقد استمر بها الدم حتى غلبها، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها إلى العرف الظاهر والأمر الغالب من أحوال النساء... الخ.



6- العاقلة وحب التنزيل



عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل على أم أيمن فقربت إليه لبنا، فإما كان صائما وإما قال: " لا أريد "، فأقبلت إليه تضاحكه، فلما كان بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر لعمر: انطلق بنا نزر أم أيمن كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فلما دخلا عليها بكت، فقالا: ما يبكيك فما عند الله خير لرسوله؟ قالت: أبكي أن وحي السماء انقطع، فهيجتهما على البكاء، فجعلت تبكي ويبكيان معها (أخرجه مسلم وأحمد وأبو يعلى).

وفي رواية: " ولكني أبكي على الوحي.. " وأم أيمن هي مولاة النبي صلى الله عليه وسلم وحاضنته، وكانت مولاة لأبيه عبد الله، وهي أم أسامة بن زيد رضي الله عن الجميع.

فأم أيمن رضي الله عنها حين تبكي يظهر من بكائها هموم المرأة المؤمنة العاقلة وأحزانها، تبكي لأنها تابعت القرآن وهو ينزل آيةً آية ولم تعد ترى من التنزيل المزيد.

وقد بكت أيضا لما قتل عمر؛ لعلمها أن عمر كان حصنا للإسلام ونصرا، ولذلك قيل لها في بكائها على عمر، فقالت: اليوم وهى الإسلام؛ أي ضعف. فما هي آلامك وأحزانك أيتها المسلمة؟ لأي شيء تذهب دموعك وتسح عبراتك؟ نريدك باكية على الخطيئة، نادمة على المعصية، نريدك باكية من قراءة القرآن، فإن لم تقدري فمتباكية. أيتها المسلمة، هل تقرأين من القرآن شيئا في اليوم والليلة؟ هل أبكتك بعض آياته، ومواقفه الجليلة؟ هل تعلمين بأحكامه، وتهذبين نفسك، وتطهرين سلوكك وقلبك بتوجيهاته وأوامره ونواهيه؟ هذا ما نريده منك أيتها العاقلة.



7- العاقلة وفداؤها لرسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسها وأهلها



عن عمارة بن غزية قال: قالت أم عمارة -أمه- رأيتني وانكشف الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فما بقي إلا نفير - نفر قليل- ما يتمون عشرة، وأنا وابناي وزوجي بين يديه نذب عنه- ندافع عنه- والناس يمرون منهزمين، ورآني ولا ترس معي- وهو درع يحمي المقاتل من الضربات- فرأى صلى الله عليه وسلم رجلا موليا- هاربا- ومعه ترس، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " ألق ترسك إلى من يقاتل "، فألقاه، فأخذته فجعلت أترس به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما فعل بنا الأفاعيل أصحاب الخيل- تقصد اشتد عليهم في القتال راكبوا الخيل من الكفار. لو كانوا رجالة- أي على أرجلهم مثلنا- أصبناهم إن شاء الله، فيقبل رجل على فرس، فيضربني، وترست له -بالدرع- فلم يصنع شيئاً وولى، فأضرب عرقوب فرسه فوقع على ظهره، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصيح:" يا ابن أم عمارة، أمك، أمك" أي عاونها على قتل الرجل، فعاونني عليه حتى أوردته شعوب –اسم للموت. ما شاء الله!

ولو كان النساء كمن ذكرن لفضلت النساء على الرجال

ولكن أيتها المسلمة، هل تعرفين لماذا هذا الحب كله والفداء كله لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ اقرئي الفقرة التالية.



8- العاقلة ومنزلة النبي صلى الله عليه وسلم عندها



لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من دفن شهداء أحد انصرف راجعا إلى المدينة، وخرجت النساء تتفقد أحوال المسلمين، فمر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة من بني دينار، وقد أصيب- قتل- زوجها وأخوها وأبوها بأحد، فلما نعوا إليها- أبلغت بموتهم- قالت: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيرا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه- وكانت لا تعرفه- فأشير إليه حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل- أي هينة.

سبحان الله! تلك المرأة من بني دينار يقتل زوجها وأخوها وأبوها ولا تبالي، وكل همها الاطمئنان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأته بعينها سالماً معافى سكن روعها وهدأت نفسها.

سيدي يا رسول الله، لقد كان أصحابك يعرفون حقا قدرك ومنزلتك عند الله وعندهم، ففدوك بأنفسهم وأزواجهم وآبائهم وإخوانهم، لكن لما ضعف الإيمان وقلت الهمة وخارت العزيمة تجرأ البعض على أمرك ونهيك وعلى سنتك، بل على شخصك الجليل. وحسبنا الله ونعم الوكيل.



9- العاقلة مستجيبة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم



قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]. فاستجابت أم حميد رضي الله عنها وعن زوجها أبي حميد الساعدي، جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوما فقالت: يا رسول الله، إني أحب الصلاة معك. فقال لها: " قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي ".



قال الراوي عبد الله بن سويد: فأمرت فبني لها مسجد في أقصى شيء من بيتها وأظلمه، وكانت تصلي فيه حتى لقيت الله تعالى. وبيت المرأة هو المكان الذي تبيت فيه، وهو أستر مكان في المنزل كله، فهل تستجيب أخواتنا لتوجيهات النبي صلى الله عليه وسلم فيما يخص الخروج إلى المساجد وآداب ذلك، في الوقت الذي كثر فيه الاختلاط والسفور والفتن، وغابت الضوابط الشرعية التي تضبط خروج المرأة، وكثر مرضى القلوب والمتعرضون؟ وإن العاقلة لتختار بيتها لتصلي فيه إذا عرفت أن زمننا أشد وأفظع من زمن أم حميد.

ولما خطب النبي صلى الله عليه وسلم في النساء يوم عيد قائلا: "يا معشر النساء، تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم" البخاري ومسلم وغيرهما. تأثرت النساء جدا بهذا الخبر، فكانت الاستجابة سريعة جدا أيضا، وفي نفس الموقف، فجعلن يتصدقن من حليهن ويلقين في ثوب بلال رضي الله عنه من أقراطهن وخواتيمهن- والقرط هو الحلق. وفعل النساء هذا الشيء يوم عيد وفرحة وزينة وتباهي بالحلي يدل على سرعة الاستجابة لله ورسوله، والخوف من جهنم، ولو طلب النبي صلى الله عليه وسلم أرواحهن لقدمنها رخيصة افتداء من عذاب النار.

إنها القلوب الحية التي تستجيب لله ورسوله وتختار ما عند الله.

والحديث كما أسلفنا كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلى النساء في يوم عيد، حيت قام صلى الله عليه وسلم يعظهن وبذكرهن بالله. وها هو بتمامه. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يا معشر النساء، تصدقن وأكثرن الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار". فقالت امرأة منهن جزلة: وما لنا يا رسول الله؟ قال: ((تكثرن اللعن وتكفرن العشير، وما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي بي منكن ". قالت: يا رسول الله، وما نقصان عقلها؟ قال: " أما نقصان العقل؛ فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل، فهذا نقصان العقل، وتمكث الليالي ما تصلي؛ وتفطر في رمضان، فهذا نقصان الدين "(رواه مسلم).



10- العاقلة والتعبد بالليل



قال الله تعالى:{ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ..} [الزمر:9]. ها هي حفصة بنت سيرين الأنصارية العالمة الزاهدة العابدة تحفظ القرآن وهي بنت اثنتي عشرة سنة، وعاشت سبعين سنة، عمرت كلها بالعبادة والقرآن، مكثت حفصة بنت سيرين ثلاثين سنة لا تخرج من مصلاها إلا لقائلة- الراحة وقت القيلولة- أو قضاء حاجة كما قال عنها مهدي بن ميمون. ويقول عنها إياس بن معاوية: ما أدركت أحدا أفضله عليها.

وليس معنى هذا دعوة النساء إلى الرهبنة، " فلا رهبانية في الإسلام "، فالإسلام لا يدعو إلى التبتل والانقطاع وترك الأعمال والتربية والخدمة وغير ذلك من الأمور الاجتماعية والحياتية، لكن لا يبغي أحدها على الآخر.

ونموذج آخر هو امرأة رباح بن عمرو القيسي وهو رجل صالح أراد أن يختبر عزيمة امرأته على قيام الليل، فتناوم، فقامت هي تصلي وأيقظته، فادعى التثاقل وأنه سيقوم، فكررت إيقاظه بعدما مضى ربع الليل، وهكذا إلى أن مضى الليل ولم يقم، فقالت: مضى الليل وعسكر المحسنون وأنت نائم! ليت شعري من غرني بك يا رباح، من غرني بك؟

إن هذه المرأة ما هي إلا نموذج عملي لقول النبي صلى الله عليه وسلم:" رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت، وأيقظت زوجها فصلى، فإن أبى نضحت في وجهه الماء " أي رشت عليه من الماء.



وامرأة رباح تأسف على زواجها منه لما رأته لا يقيم الليل، فعلى أي شيء تأسفين في زوجك أيتها المسلمة؟ أ لأنه فقير، أم لأنه لا يمتلك سيارة، أم لأنه ليس من أسر عريقة مرموقة، أم لأنه ضعيف في دينه؟! هذه الأخيرة التي نريد أن تكون مصدر قلق وانزعاج المسلمة العاقلة.



11- العاقلة والثبات مع حسن التصرف عند فجيعة المأزق



ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه الجواب الكافي " أن رجلا كان واقفا بإزاء داره، وكان بابها يشبه باب حمام منجاب، فمرت جارية لها منظر، فقالت: أين الطريق إلى حمام منجاب؟ فأشار إلى بيته وقال لها: هذا حمام منجاب، فدخلت الدار- وهي لم تعرف أنه خدعها- ودخل وراءها، فلما رأت نفسها في داره وعلمت أنه قد خدعها، أظهرت له البشرى والفرح باجتماعها معه، وقالت له: يصلح أن يكون معنا ما يطيب به عيشنا وتقر به عيوننا، فقال لها: الساعة آتيك بكل ما تريدين وتشتهين، وخرج وتركها في الدار ولم يغلقها، فأخذ ما يصلح ورجع فوجدها قد خرجت وذهبت..".

سبحان الله! رغم أنها وقعت في ورطة عظمى، ومصيبة كبرى، لكنها بما تتمتع به من ذكاء وثبات، ورجاحة عقل وهدوء أعصاب استطاعت بتوفيق الله أن تنجو من هذا المأزق المهين كما تخرج الشعرة من العجين، ولو أنها ارتبكت، وصاحت وبكت؛ لحاول الخبيث كتم فمها وأنفاسها، ثم قام بافتراسها، ليفعل بها ما يريد، وليقضي على الأخضر واليابس من عرضها وشرفها. نسأل الله تعالى أن يعافي بنات المسلمين من مثل ذلك الخائن اللئيم.



12- العاقلة وتحصين فرجها عن الفاحشة:



ضرب الله تعالى مثلا في الطهر والعفاف بواحدة من سيدات نساء العالمين، وهي مريم ابنة عمران، فقال تعالى:{ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [التحريم:12]. وعلى طريق مريم سارت عاقلات صالحات قانتات، نذكر منهن هذه الأمثلة:

1- هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان، بايعت النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح مع النساء، وبايعهن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا يسرقن ولا يزنين، فقالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم قولتها المشهورة: وهل تزني الحرة؟ وحقا ما قالت، فإنها تعبر عما ينبغي أن يستقر في قلب كل حرة عاقلة، وأن الحرة حقا ينبغي ألا تكون أسيرة لشهوتها ولا مطيعة لمن يقضي على عفتها.

وعن جابر رضي الله عنه أنه كان لعبد الله بن أبي بن سلول جارية يقال لها: مسيكة، وأخرى يقال لها: أميمة، فكان يكرههما على الزنى، فشكتا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله:{وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ...} إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} (صحيح مسلم).

2- وهذه معاذة جارية عبد الله بن أبي بن سلول أيضا، وكان عنده أسير، فكان ابن سلول يضربها لتمكن الأسير من نفسها، رجاء أن تحبل منه فيأخذ ابن سلول فداء عن الأسير وابنه، وهو العَرَض الذي قال الله تعالى فيه: {عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}. وكانت الجارية تأبى عليه، وكانت مسلمة، فأنزل الله تعالى فيها الآية: {...وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...} [النور:33]. والقصة رواها الطبراني والبزار عن ابن عباس قال: كانت لعبد الله بن أبي جارية تزني في الجاهلية، فلما حرم الزنى قالت: لا والله لا أزني أبدا، فنزلت:{وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ...} الآية.

وفي القصة الأولى كنا نذكر قول هند: " هل تزني الحرة؟ ". وفي غيرها رأينا الجاريات ترفض أيضا الزنى! إذن فمن هذه التي تقبل الزنى وتُقْدِم عليه؟ لا شك أنها الوضيعة الحقيرة التي وضعت شرفها وعفتها تحت تصرف الزاني بها، وهي دون الحرة، وأقل من الجارية، فهي أقرب إلى الحيوانات، والعاقلة لا تفعل ذلك.



13- العاقلة والحياء



عن يعلى بن أمية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله تعالى حيي ستير يحب الحياء والستر" (صحيح أخرجه أحمد والنسائي والدارمي). وأعظم ما يجمل المرأة حياؤها، وإذا فقدت حياءها فقدت أنوثتها وعفتها وصارت عرضة لكل خلق سيئ.

ومن النماذج المشرفة في الحياء ما روته عائشة- رضي الله عنها- قالت: جاءت فاطمة بنت عتبة بن ربيعة- رضي الله عنها- تبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ عليها: {أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ...} الآية، قالت عائشة: فوضعت فاطمة بنت عتبة يدها على رأسها حياء، فأعجب رسول الله في ما رأى منها (أخرجه أحمد والبزار). فبمجرد أن سمعت فاطمة بنت عتبة نص البيعة: {لا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ} وضعت يدها على رأسها وأخفت وجهها حياء، حتى أعجب النبي صلى الله عليه وسلم بما رأى منها، فأين كثير من بنات زمننا من ذلك؟!

وهذه فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم لما رأت جنائز النساء تحمل الواحدة منهن على النعش مكشوفا وتغطى بثوب فيُعرف رأسها وصدرها وحجمها، فاستقبحت فاطمة ذلك، فقالت لأسماء بنت عميس: إني أستقبح ما يصنع بالنساء، يطرح على المرأة الثوب فيصفها- أي يُظهر حجم أعضائها-، فقالت لها أسماء: يا ابنة رسول الله، ألا أريك شيئا رأيته بالحبشة؟ فدعت بجرائد- عيدان الجريد- رطبة، فحنتها- أي جعلتها محنية على شكل قوس- ثم طرحت عليها ثوبا، فقالت فاطمة: ما أحسن هذا وأجمله، إذا مت فغسليني أنت وعلي ولا يدخلن أحد علي.

قال ابن عبد البر: هي أول من غطي نعشها في الإسلام على تلك الصفة.

إذا كان هذا حياء فاطمة رضي الله عنها عند الموت، تريد غطاء مرتفعا من جريد تعرف به المرأة من الرجل ولا يُعرف لها حجم وهي تحته فلا ينظر إليها بعد إذ عُلِمَ أنها امرأة. فماذا نقول لمن تلبس الثياب المجسمة التي تظهر تفصيلات جسمها لتعرضه على البر والفاجر، أهي عاقلة؟! إن الحيية المحتشمة امرأة، والمتبرجة التي لا تستحي أيضا امرأة، لكن كم من الفرق بين المرأتين؟!!



14- العاقلة ولزوم البيت وعدم التعرض للرجال:



في قصة موسى صلى الله عليه وسلم مع المرأتين في سورة القصص، قال الله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23]. فامتنعت المرأتان عن سقي غنمهما ابتعادا عن مخالطة الرجال على البئر، وكان بإمكانهما أن يسقيا قبل كثير من الناس، وذلك بالتعرف على بعض الرجال الذين يحبون مخالطة النساء، كما يحدث من كثيرات ممن تظن أنها صاحبة فهم وتصرف، لكنهما لعفتهما امتنعتا عن مجرد الوقوف عند الرجال على البئر، فاعتزلتا بالغنم حتى ينتهي الرعاة من السقي، ثم ذكرتا العلة من خروجهما أنهما مضطرتان بسبب كبر سن الوالد المقعد في البيت، ويوم أن علمت كل منهما بقوة موسى وأمانته سارعت إلى ترك الخروج، وقالت إحداهما:{يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26]، لكن الرجل حريص، لا يستأجره فيختلط ببناته بلا محرم وهو كبير مقعد، فرأى أن زواجه بإحدى بناته حل للمشكلة من جذورها، بل وجعل المهر عملا يساهم أيضا في حل المشكلة: {ِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص: 27]، يعني ثمان سنوات أو عشر من الخدمة تكون مهرا لابنته، فوافق موسى صلى الله عليه وسلم. إن العاقلة هي التي تعرف أن بيتها هو حصنها وصيانتها.

وعن عمرة رضي الله عنها أن الزبير كان شرط ألا يمنعها المسجد، وكانت امرأة خليقة، فكانت إذا تهيأت إلى الخروج للصلاة قال لها: والله إنك لتخرجين وإني لكاره، فتقول: فامنعني فأجلس، فيقول: كيف وقد شرطت لك ألا أفعل؟ فاحتال لها على الطريق في الغَلَس، فلما مرت وضع يده على كفلها فاسترجعت، ثم انصرفت إلى منزلها، فلما حان الوقت الذي كانت تخرج فيه إلى المسجد لم تخرج فقال لها الزبير: مالك لا تخرجين إلى الصلاة؟ قالت فسد الناس، والله لا أخرج من منزلي، فعلم أنها ستفي بما قالت، فقال: لا روع يا ابنة عمر، وأخبرها الخبر، فقتل عنها يوم الجمل، ثم خطبها علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد انقضاء عدتها من الزبير.



15- العاقلة في الحج



كثير من النساء تتساهل في الحج في أمور عظيمة لا ينبغي التساهل فيها أمام الرجال، فيكشفن وجوههن ويختلطن بالرجال، ويتعللن بعلل لا تصلح دليلا على التساهل، فمن قائلة: نحن في حج والقلوب صافية، ومن قائلة: ظروف الحج تختلف عن أي وقت، وغير ذلك. ونسأل: هل قلوب تلك النساء ومن حولهن من الرجال أصفى من قلوب نساء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن حولهن من الصحابة؟ والجواب: لا. فلماذا إذن قالت فاطمة بنت المنذر العفيفة التقية النقية- رضي الله عنها- وهي في الحج "كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر، تعني جدتها". قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المرأة تلبس المخيط كله والخفاف (جمع خف)، وأن لها أن تغطي رأسها وتستر شعرها إلا وجهها فتسدل عليه الثوب سدلا خفيفا تستتر به عن نطر الرجال (صحيح البخاري). وإذا كان الحج الآن يحضره ملايين من البشر، فلا تكاد تمشي المرأة إلا والرجال خلفها وأمامها وعن أيمانها وعن شمائلها، فهل يجوز لها أن تكشف وجهها؟ العاقلة تقول: لا.



16- العاقلة مبلغة للنساء حديث النبي صلى الله عليه وسلم



قال النبي صلى الله عليه وسلم: " بلغوا عني ولو آية " (صحيح البخاري). وها هي امرأة ممن بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام وعلى ألا يعصين في معروف، توضح للمسلمات شيئا مما أخذ عليهن من المعروف الذي لا تعصي فيه المرأة فتقول: " ألا نخمش وجها، ولا ندعوا ويلاً على الميت، ولا نشق جيبا، وألا ننشر شعراً " (صحيح أبي داود).

إنها تقول ذلك لأن كثيرا من النساء إذا أصابتها مصيبة لطمت الخدود وشفت الجيوب، ودعت بدعوى الجاهلية. والأمثلة من المسلمات المبلغات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصر، لكن يكفي أن تعلم المبلغة أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لها بأن ينضر الله وجهها يوم تنضر الوجوه، فقال: " نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها ثم بلغها عني، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه " (صحيح ابن حبان).



17- العاقلة وتجنبها الفتنة وصمودها عند وقوعها



هذه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط- رضي الله عنها- أسلمت بمكة وبايعت ولم يتهيأ لها هجرة إلى سنة سبع، وكان خروجها- إلى المدينة- زمن صلح الحديبية، فخرج في إثرها - خلفها- أخواها الوليد وعمارة، فما زالا حتى قدما المدينة، فقالا: يا محمد "فِ" لنا بشرطنا- وكان من الشروط في صلح الحديبية أن يرد النبي صلى الله عليه وسلم من جاءه مسلما إلى الكفار- فقالت أم كلثوم: أتردني يا رسول الله إلى الكفار يفتنونني عن ديني ولا صبر لي، وحال النساء في الضعف ما قد علمت؟ فأنزل الله تعالى- الرحيم-: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ...} [الممتحنة:10]، فكان صلى الله عليه وسلم يمتحن النساء، فيقول: " آلله ما أخرجكن إلا حب الله ورسوله والإسلام؟ ما خرجتن لزوج ولا مال؟" فإذا قلن ذلك لم يرجعهن إلى الكفار.

فأم كلثوم خشيت من الكفار أن يفتنوها في دينها، وأكدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خشيتها بضعف النساء المعلوم، فأيد الله تعالى رأيها ورحم حالها وبارك فعالها وأنزل الفرج (فإنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ)(الممتحنة:الآية10)

لكن إذا وقعت الفتنة فما على المسلمة إلا الصبر والاستعانة بالله العظيم.

فها هي سمية أم عمار بن ياسر، سابعة سبعة في الإسلام، عذبها أبو جهل وطعنها في قبلها بحربة، فماتت، فكانت أول شهيدة في الإسلام، فكانوا يعذبونها وهي تأبى غير الإسلام، حتى قتلوها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بعمار وأمه وأبيه ياسر وهم يعذبون بالأبطح- مكان في أعلى مكة- في رمضاء مكة- حرها الشديد- فيقول: " صبرا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة" .

سمية لا تبـالي حين تلقى عذاب النكر يوما أو تهـونا

وتأبى أن تردد ما أرادوا وكانت في عـداد الصابرين



18- العاقلة غير ناظرة إلى الرجال ولا تختلط بهم



لا يجوز جلوس الرجال والنساء واجتماعهم في مجلس واحد مختلطين ينظر بعضهم إلى بعض.

قالت أم سلمة- رضي الله عنها-: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده ميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم، وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " احتجبا منه ". فقلنا: يا رسول الله، أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أفعمياوان أنتما، ألستما تبصرانه؟" (صحيح ابن حبان).

قال ابن حجر: وفيه دليل على أن النساء محرم عليهن النظر إلى الرجال إلا أن يكونوا لهن بمحرم، سواء أكانوا مكفوفين أو بصراء.

قلت: وهذا لا يتعارض مع أمره صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم، لما قاله القرطبي قال ابن العربي: وإنما أمرها بالانتقال من بيت أم شريك إلى بيت ابن أم مكتوم " لأن ذلك أولى بها من بقائها في بيت أم شريك؟ إذ كانت أم شريك مؤثرة بكثرة الداخل إليها، فيكثر الرائي لها، وفي بيت ابن أم مكتوم لا يراها أحد، فكان إمساك بصرها عنه أقرب من ذلك وأولى فرخص لها ذلك. والله أعلم.

لكن يجوز أن تنظر المرأة المسلمة إلى الرجال للحاجة وهم يمشون في الطرقات، أو أثناء البيع والشراء، أو يلعبون ألعابا غير محرمة، بشرط ألا يظهر من الرجال شيء من عوراتهم من الركبة إلى السرة، كمن يلعب مظهرا فخذيه، ويشرط ألا يترتب على هذا النظر فتنة، وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل ينظر إلى الحبشة وهم يلعبون في حرابهم في المسجد يوم العيد، وعائشة- رضي الله عنها- تنظر من ورائه وهو يسترها منهم، حتى ملت ورجعت. فالعاقلة المنصفة تعرف أن عائشة كانت مختفية مستترة خلف جسم النبي صلى الله عليه وسلم، فتراهم من حيث لا يرونها.

وعلى هذا فالنظر إلى الرجال مشترط بشرطين:

الأول: ألا يترتب عليه فتنة.

الثاني: ألا يكون في مجلس واحد مواجهة كمجلس ابن أم مكتوم.

وفي الجملة فإن الله تعالى أمر الفريقين- الرجال والنساء- بتقوى الله وغض البصر، لأنه كما قال جل وعلا: {...ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30].



19- العاقلة والحجاب



عن عطاء بن رياح قال: قال لي ابن عباس: ألا أربك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع وإني أتكشف، فادع الله لي، قال: " إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك ". فقالت: أصبر، قالت: وإني أتكشف فادع الله ألا أتكشف، فدعا لها (رواه مسلم والبخاري).

وعند البزار عن ابن عباس في نحو هذه القصة أنها قالت: إني أخاف الخبيث- أي الشيطان- أن يجردني، فدعا لها، فكانت إذا خشيت أن يأتيها تأتي أستار الكعبة فتتعلق بها . يعني أنها بربها تستغيث من كيد ذلك الخبيث.

انظري أيتها المسلمة إلى إصرار تلك المرأة على أن تتستر ولا ينكشف منها شيء، وتخشى أن يجردها وبكشفها الشيطان الخبيث إذا صرعها، رغم أنها سوداء، ربما لا يشتهيها أحد، وهي معذورة، وفي ذلك عبرة لمن تقول: أنا لن أتحجب لأنني لست جميلة، ومن تقول: أن أرجلها مثل الكِسرة البالية! لكن الناظر إلى حال تلك المرأة السوداء الصابرة المحتسبة يجد أن هذه المرأة أفزعها انكشافها أكثر مما أفزعها الصرع والجن الذي يصرعها، فصبرت على الصرع ولم تصبر على أن تتكشف، ولو أصاب جن امرأة في زماننا لذهبت إلى السحرة والكهان وارتكبت شتى المخالفات في سبيل تحصيل الشفاء، إلا من رحمها اوهذ0ه فتاة فرنسية " فاطمة عشبون " في حديث مع صحيفة " الفيجارو الفرنسية " تقول للصحيفة: أنا لن أخلع الحجاب مهما كلف الأمر. وتقول: لن أخضع لأي ضغط لخلع الحجاب ولو كان هذا الضغط من والدي. وتقول: وإذا ما حاولوا دون عودتي إلى المدرسة فسأبقى في المنزل.

نعم: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8].

تلك الكلمات الناصعة المذهبة التي ستظل خالدة في سمع الزمان وسمع الدنيا، سطرتها فاطمة عشبودن، تلك الفتاة المثالية التي آمنت بالله ربا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا، وعرفت قوله صلى الله عليه وسلم: " ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء " (رواه البخاري ومسلم). ولذلك فهي تقول: لن أخلع الحجاب مهما كلف الأمر، في حين أننا في المقابل نرى من المسلمات من انهزمت في دينها فصارت تقول: لن ألبس الخمار مهما كلف الأمر !! بعكس فاطمة عشبون التي تعيش في مجتمع فرنسي غير مسلم، أما بناتنا ونساؤنا فالمجتمع لا يمنعهن من ذلك، فأيتهما أعقل؟!

وبوم يكون خروج المرأة مؤديا إلى مخالفات شرعية كخلع الحجاب، فإن العودة إلى المنزل حينئذ هي التصرف الشرعي الصحيح، وهكذا فعلت وقالت فاطمة: " وإذا ما حاولوا دون عودتي إلى المدرسة فسأبقى في المنزل ".

بارك الله فيك يا فاطمة، وأكثر من أمثالك، ونصرك على القوم الظالمين، ويا ليتك يا ابنتي، يا صغيرة السن، يا طالبة المدرسة تكوني عبرة ومثلا ودرسا لكثير من أخواتنا الجامعيات حاملات الشهادات، أنا أشهد لك يا فاطمة أنك تحملين أغلى وأعز شهادة في الوجود وهي شهادة ألا إله إلا الله، وعرفت معناها وعملت بمقتضاها، كما أشهد أن كثيرات غيرك يحملن شهادات الدنيا العالية –كما يسمونها- لكنهن ينطبق عليهن قول الله جلا وعلا: { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7].



20- العاقلة ومصافحة الرجال



أخرج الطبراني عن عقيلة بنت عتيك بن الحارث قالت:" جئت أنا وأمي بريرة بنت الحارث العتوارية في نساء من المهاجرات فبايعنا رسول الله ي، فإذا هو ضارب عليه قبة- خيمة- بالأبطح- وهو مكان بأعلى مكة- فأخذ علينا ألا نشرك بالله ولا نسرق... الحديث. وفيه: فبسطنا أيدينا- لمصافحته- فقال: " إني لا أمس أيدي النساء ". فاستغفر لنا فكانت تلك بيعتنا ".

واستغفاره لهن كان تحقيقا لقول الله جل وعلا: {فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة:12].

فكيف يصافحهن صلى الله عليه وسلم وهو القائل: " لأن يُطعن أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له " (رواه الطبراني). وعند البخاري ومسلم وغيرهما قالت عائشة: " والله ما مست يد رسول الله يد امرأة ".



21- العاقلة والصراحة المنصفة



هذه هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان، وصفوها بأنها من عقلاء النساء، كانت قبل إسلامها لا تكره أحدا مثلما تكره بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد أن أسلمت لم تكن تحب أهل بيت مثلما أحبت بيت النبوة، وها هي تصارح النبي صلى الله عليه وسلم بتلك المعلومة التي تحمل في طياتها اعتذارا عن شقها بطن عمه حمزة رضي الله عنه وهو مقتول بمعركة أحد، وإخراجها كبده ومضغها تشفيا وكراهية، وهي تعلم أن ذلك أثر في نفس النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أن أرادت بعد إسلامها أن تثبت صدقها في حبها لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، قدمت أولا أنها لم تكن تكره بيتا أشد من بيته صلى الله عليه وسلم، واعترافها بهذا راضية غير مكرهة وصدقها فيه يدل على صدقها في الأخرى وهي حب آل بيته صلى الله عليه وسلم.

عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: جاءت هند بنت عتبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، والله ما كان على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي أن يُذلوا من أهل خبائك، ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي أن يُعَزُّوا من أهل خبائك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " وأنا أيضا والذي نفسي بيده " الحديث (رواه البخاري ومسلم وابن حبان). رحم الله هند.

لقد عفا عنها النبي صلى الله عليه وسلم وقبل منها وقابلها بنفس شعورها، وأقسم على ذلك رغم ما فعلته في عمه حمزة رضي الله عنه، لكنها فعلت ذلك تحت وطأة الكفر الذي يُكنُّ للإسلام كل عداوة، ثم بعد ذلك أسلمت، والإسلام يجب ما قبله؛ أي يمحو كل ما سبقه من انحراف، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ليدخل الناس في الإسلام لا لينتقم لنفسه منهم، فلذلك لم يعد أهل بيت أحب إلى قلب هند من أن يعزوا من بيت النبي صلى الله عليه وسلم.



22- العاقلة وتحري الصدق



عن أسماء بنت عميس قالت: كنت صاحبة عائشة التي هيأتها وأدخلتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعي نسوة، قالت: فوالله ما وجدنا عنده قرى- شيئا يضيفنا به- إلا قدحا من لبن، فشرب منه ثم ناوله عائشة، فاستحيت الجارية- عائشة-، فقلنا لها: لا تردي يد رسول الله، فأخذت منه على حياء فشربت، ثم قال: " ناولي صواحبك ". فقلنا: لا نشتهيه، فقال- صلى الله عليه وسلم: " لا تجمعن جوعا وكذبا ". فقلت: يا رسول الله، إن قالت إحدانا لشيء تشتهيه: لا أشتهيه، أيعد ذلك كذبا؟ قال: ((إن الكذب يُكتب، حتى تُكتب الكذيبة كذيبة " (رواه أحمد في مسنده). يعني: كل ما هو كذب ومخالف للحقيقة نكتب حتى الكذيبة- الكذبة الصغيرة-، وحتى ما يسمونه- الكذبة البيضاء- أو الكذب الأبيض، وإنه لأسود فاقع السواد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا " (رواه البخاري وابن حبان وغيرهما). قال الله تعالى:{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ...} [الزمر:60].



23- العاقلة وخاطبها



عن أنس رضي الله عنه قالت: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم على جليبيب امرأة من الأنصار إلى أبيها، فقال: حتى استأمر أمها- يعني يأخذ رأيها- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " فنَعَم إذن ". قال: فانطلق الرجل إلى امرأته، فذكر ذلك لها، قالت: لاها الله، إذن ما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جليبيب وقد منعناها من فلان وفلان؟ قال: والجارية في سترها تسمع، قال: فانطلق الرجل يريد أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك- برفض زوجته- فقالت الجارية- البنت العروس-: أتريدون أن تردوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره؟ إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه، قال: فكأنها جلت- كشفت الغشاوة- عن أبويها، وقالا: صدقت، فذهب أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن كنت رضيته فقد رضيناه، قال –صلى الله عليه وسلم: " فإني قد رضيته ". قال: فزوجها.

ثم فزع أهل المدينة- للحرب- فركب جليبيب، فوجدوه قد قتل وحوله ناس من المشركين قد قتلهم. وقصة ذلك كما أخرجها مسلم في صحيحه عن أبي برزة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مغزى له، فأفاء الله عليه، فقال لأصحابه: " هل تفقدون من أحد؟" قالوا: نعم، فلانا وفلانا وفلانا، ثم قال: " هل تفقدون من أحد؟" قالوا: نعم، فلانا وفلانا وفلانا، ثم قال: " هل تفقدون من أحد؟" قالوا: لا، قال: " لكني أفقد جليبيبا فاطلبوه "، فطلب في القتلى فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فوقف عليه فقال: "قتل سبعة ثم قتلوه، هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه ". قال: فوضعه على ساعديه ليس له إلا ساعدا النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فحفر له ووضع في قبره ولم يذكر غسلا.

سبحان الله! جاء الخاطب جليبيب وهو عبد، لكنه زكاه رسول الله صلى الله عليه وسلم واختاره، واختار له المخطوبة، وفي لحظة غفلة كاد الأب والأم أن يرفضا، لكن البنت التي تعلمت من الإسلام أعظم المبادئ تذكر أبويها حين هما بالرفض فتقول: أتريدون أن تردوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره؟ هذه هي العروس التي نتمناها لكل مسلم، كم من عروسين ينتسبان إلى الإسلام، ولا يَمُتُّ عرسهما إلى الإسلام بصلة، كم من أوامر لله ورسوله تُرد، وكم من سنن تترك ومعاصي ترتكب ويدع تمارس من يوم أن يخطب الخاطب مخطوبته إلى ما شاء الله؟! فاعتبروا يا أولي الأبصار بجليبيب وبعروس جليبيب.

وعن ابن داجة عن أبيه قال: لما مات عبد الله بن عبد الملك، رجعت هند بميراثها منه، فقال عبد الله بن حسن لأمه فاطمة: اخطبي علي هندا، فقالت: إذا تُرِدك، أتطمع في هند وقد ورثت ما ورثته؛ وأنت ترب لا مال لك؟ فتركها ومضى إلى أبي عبيدة فخطبها إليه، فقال: في الرحب والسعة، أما مني فقد زوجتك، مكانك لا تبرح، ودخل على هند، فقال: يا بنية، هذا عبد الله بن حسن، أتاك خاطبا، قالت: فما قلت له؟ قال: زوجته. قالت: أحسنت، قد أجزت ما صنعت، وأرسلت إلى عبد الله، لا تبرح حتى تدخل على أهلك! قال فتزينت له، فبات بها معرساً من ليلته، ولا تشعر أمه، فأقام سبعا ثم أصبح يوم سابعه غادياً على أمه، وعليه ردع الطيب، وفي غير ثيابه التي تعرف، فقالت له: يا بني، من أين لك هذا؟ قال: من عند التي زعمت أنها لا تريدني.

بهذه السهولة واليسر عفت هذه المرأة نفسها، وكانت سببا في عفة رجل، وهذا من أهم أسباب البركة، ولم يثنها أنها غنية وهو فقير كما تخوفت أمه، وقد ساعد في هذا أيضا الأب العاقل الذي ييسر على الناس، لعل الله ييسر عليه.



24- العاقلة ومصارحتها خاطبها بأحوالها



أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخطب أم سلمة- رضي الله عنها- بعد وفاة زوجها أبي سلمة، فلما انقضت عدتها بعث إليها عمر بن الخطاب يخطبها عليه، فقالت: أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أني غيرى- شديدة الغيرة من الضرائر-، وأني مصبية- ذات صبية صغار ولا تريد أن تضيق بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم- وليس أحد من أوليائي شاهدا - فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال: " ارجع إليها فقل لها: أما قولك: إني امرأة غيرى فأسأل الله أن يذهب غيرتك، وأما قولك: إني امرأة مصبية فتكفين صبيانك، وأما قولك: إنه ليس من أوليائك شاهد، فليس من أوليائك شاهد ولا غائب يكره ذلك " فقالت لابنها: يا عمر، قم فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزوجه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيها ليدخل بها، فإذا رأته أخذت ابنتها زينب فجعلتها في حجرها، فينقلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلم بذلك عمار بن ياسر وكان أخاها من الرضاعة، فجاء إليها فقال: أين هذه المقبوحة التي آذيت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأخذها فذهب بها، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها فجعل يضرب ببصره في جوانب البيت، وقال: " ما فعلت زينب؟". قالت: جاء عمار فأخذها فذهب بها، فبنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " إني لا أنقصك مما أعطيت فلانة؛ رحائين وجرتين ومرفقة حشوها ليف ". وقال: " إن سبعت لك سبعت لنسائي".(صحيح ابن حبان)

هذه أم سلمة تخبر النبي صلى الله عليه وسلم بكل صراحة بكافة أحوالها، ومَن من النساء تتحصل على الزواج من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لكن أم سلمة رضي الله عنها لم يمنعها ذلك من أن تعلمه بالحقيقة ولو كانت النتيجة الرفض منه، إلا أننا نرى نساء إذا جاءهن الخاطب قالت هي وأهلها: فرصة لا نضيعها، افرشوا له الأرض بالحرير، وحلوا له الكلام بالعسل، وابتسموا في وجهه، وإن لم يكن هذا طبعكم، واكتموا عنه كل شيء يسيئه، ثم بعد ذلك يا سادة، نعلمه أين يخبئ القرد أولاده!!

حتى إذا ما عقدوا العقد كشرت الحية عن أنيابها، وشنت الحرب الأهلية، حتى يقول الزوج: يا ليتي مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا.

هذا يحدث في العادة، فأين يا قوم السعادة!! لكن أم سلمة الشريفة العاقلة، العفيفة الفاضلة تعطينا الدرس.

ودرس آخر: تقول أم سلمة رضي الفه عنها: أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمني وبيننا حجاب فخطبني... الحديث (أخرجه ابن سعد وأحمد وإسناده صحيح).

فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم التقي النقي، وهذه أم سلمة المبشرة بالجنة، قبل أن يحدث بينهما رؤية شرعية يكلمها أولاً أنه يريد الزواج منها، فكان الكلام من وراء حجاب، وتلك هي الأخلاق والآداب، فما بال الذين جاءونا بدين جديد؟! يتعرفون أولاً ثم صداقة، واختلاط وعلاقة، وتجربة وحب، وإذا سألتهم: قالوا حب شريف! ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف الحب الشريف حتى عرفتموه للأمة؟! " من سنَّ في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء"(رواه مسلم). نسأل الله السلامة.



25- العاقلة ومهرها



عن أنس رضي الله عنه قال: خطب أبو طلحة أم سليم- قبل إسلامه وهي مسلمة، فقالت: إني آمنت، فإن تابعتني على ديني تزوجتك، قال: فأنا على مثل ما أنتِ عليه، فتزوجته أم سليم وكان صداقها الإسلام. وفي رواية: قالت: ألست تعلم أن إلهك الذي تعبد نَبَتَ من الأرض؟ قال: بلى، قالت: أفلا تستحي؟ تعبد شجرة؟ إن أسلمت فلا أريد منك غيره- أي لا أريد منك صداقا غير الإسلام- قال: حتى أنظر في أمري، فذهب ثم جاء، فقال: أشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فقالت: يا أنس- ابنها- زوج أبا طلحة، فزوجها. (أخرجه النسائي والحاكم وسنده صحيح)

لقد كسبت أم سليم زوجا، وكسبت ما هو أعظم من ذلك، هداية رجل على يديها يظل في ميزانها إلى أن تلقى ربها بوم القيامة. " لأن يهدي بك الله رجلا واحدا خير لك من الدنيا وما فيها ". إنها تعرف حقا معنى الزواج، زوج مسلم صالح، وبيت مؤمن ناجح. أذلك خير أم التي تبحث عن المظاهر والتكاثر، من كل غرض الدنيا على حساب الدين والمبادئ والأخلاق ثم بعد ذلك تشكو من زوجها الأمرين؟!



26- العاقلة وجهاز عرسها



اخرج ابن سعد في طبقاته عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما زوجه فاطمة بعث معها بخميلة ووسادة أدم حشوها ليف، ورحاءين- لتطحن بهما الحب- وسقاءين- إناءين للشرب.

فاطمة واحدة من سيدات نساء العالمين، وهذا مهرها؟ فلماذا كل هذا التخفف؟ لأن الزواج بناء أسرة في الحقيقة وليس بناء مستعمرة أو ثكنة عسكرية مكتظة بكافة الآلات والمعدات. وبناء الأسرة السعيدة لا يقوم إلا على عمودين أساسيين: زوج صالح، وامرأة عاقلة ذات دين.

وقد مر بنا في الفقرة قبل السابقة جهاز أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها وهو عبارة عن رحائين وجرتين ومرفقة حشوها ليف.

27- العاقلة وغناء الأفراح

ليس معنى الأفراح الخروج عن الجادة، وليس معنى الغناء؛ تعاطي الفجور بين تبرج وسفور، وردي الكلام وفاحش القول، وليس معنى أن الزواج مرة في العمر- تقريبا- أن يستهين المرء بفعل وقول ما يغضب الله، ولو كان يوما في العمر؛ بل لحظة، ولكن الحق أن ذلك اليوم إما أن يكون تأسيسا لبنيان الزوجية على تقوى من الله ورضوان، وإلا؛ فهو على شفا جرف هار، فانهار بذل وهوان، وخيبة وخسران.

وسأحدثكم الآن عن عرس وفرح من أفراح سلفنا الصالح: عن نبيط بن جابر عن جدته أم نبيط قالت: أهدينا جارية لنا من بني النجار إلى زوجها، فكنت مع نسوة من بني النجار ومعي دف أضربه وأنا أقول:

أتيناكم أتيناكم فحيونا نحيكم

ولولا الذهب الأحمر لما خلت بواديكم

قالت: فوقف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ما هذا يا أم نبيط؟ " فقلت: بأبي أنت وأمي يا نبي الله، جارية منا من بني النجار نهديها إلى زوجها. قال: " فتقولين ماذا؟ " قالت: فأعدت عليه قولي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قولي:

ولولا الحنطة السمر لما سمنت عذاريكم"

والحنطة: نوع من الدقيق يفضله العرب، وهذا الغناء ومثله جائز في الأفراح إن لم يصحبه آلة لهو محرمة كالمزمار والعود وغيره، فإن صاحبه شيء من هذه الممنوعات لم يجز هذا الغناء؛ لا أداء ولا استماعا، وقد امتثلت أمهات المؤمنين لمثل هذا المفهوم الذي يغالط فيه كثير من أبناء المسلمين وبناتهم.

فعن أم علقمة أن بنات أخي عائشة ختِنَّ، فقيل لعائشة: ألا ندعو لهن من يلهيهن؟ قالت: بلى، فأرسلت إلى فلان المغني فأتاهن، فمرت عائشة في البيت فرأته يتغنى وبحرك رأسه طربا- وكان ذا شعر كثير، فقالت: أف، شيطان، أخرجوه، أخرجوه.

فانظري أيتها المسلمة، هذه أم المؤمنين أذنت أن يأتي من ينشد الشعر لتسلية بنات أخيها حال اختتانهن وهن بنات صغيرات، لكنهن يفهمن الشعر والعربية، فلما رأت عائشة رضي الله عنها هذا الشاعر لم يقتصر على أداء الشعر، بل كان يتمايل ويحرك رأسه طربا، فتأففت من وجوده ووصفته بأنه شيطان، وأمرت بإخراجه، فأُخرج.

فهل عرفت أيتها العاقلة ما هو الغناء وما هي ضوابطه؟

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيكون في الناس من يستحل المعازف- أي يجعلها حلالا- بعد إذ حرمها الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم:" ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحِر- الفرج- والحرير والخمر والمعازف " (أخرجه البخاري). وهي آلات العزف والموسيقى.

وقال صلى الله عليه وسلم: " ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم تروح عليهم سارحتهم، فيأتيهم آت لحاجته فيقولون له: ارجع إلينا غدا، فيبيتهم الله ويضع العَلَم ويمسخ منهم آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة" (رواه البخاري).

وعن عبد الرحمن بن عوف قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيدي، فانطلقت معه إلى ابنه إبراهيم وهو يجود بنفسه، قال: فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم ووضعه في حجره حتى خرجت نفسه، قال: فوضعه ثم بكى، فقلت: تبكي يا رسول الله وأنت تنهى عن البكاء؟ فقال: "[إني لم أنه عن البكاء، ولكن نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين، عند نعمة، لهو ولعب ومزامير شيطان، وصوت عند مصيبة، لطم وجوه وشق جيوب، وهذه رحمة،، ومن لا يَرحم لا يُرحم، يا إبراهيم لولا أنه وعد صادق، وقول حق، وأن آخرنا سيلحق بأولنا، لحزنا عليك حزنا أشد من هذا، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون، تبكي العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب عز وجل".

وقال صلى الله عليه وسلم: " صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة: مزمار عند نغمة، ورنة عند مصيبة".

وروى ابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" يُمسخ قوم من أمتي في آخر الزمان قردة وخنازير ". قالوا يا رسول الله، أليس يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله؟ قال: " بلى، ويصومون ويصلون ويحجون ". قالوا: فما بالهم يا رسول الله؟ قال " اتخذوا المعازف والقينات والدفوف وشربوا الأشربة فباتوا على شربهم ولهوهم فأصبحوا وقد مُسخوا قردة وخنازير، وليمرن الرجل على الرجل في حانوته يبيع فيرجع إليه وقد مسخ قردا أو خنزيرا ". قال أبو هريرة: لا تقوم الساعة حتى يمشي الرجلان في الأمر فيمسخ أحدهما قردا أو خنزيرا ولا يمنع الذي نجا منهما ما رأى من صاحبه أن يمضي إلى شأنه حتى يقضي شهوته. قاله الشوكاني، قال المنذري: وأخرجه البخاري تعليقا، وانظر عون المعبود(11/59).

وهل تخلو مجالس الغناء ومسارح الطرب في أنحاء من الدنيا كثيرة من رقص خليع فاجر، وخمر يُدار، وصياح السكارى، وكلمات فاحشة مثيرة للشهوات والفواحش، واختلاط شائن بين الجنسين، وتحلل وإباحية، وآلات اللهو المحرمة، فأين الحلال في هذا الغناء أو جزء منه أيها الضالون المكذبون؟!



28- العاقلة وحفظ سر زوجها



" إن من شر الناس منزلة يوم القيامة الرجل الذي يجامع زوجته ثم ينشر سرها أو تنشر هي سره" (رواه مسلم وأبو داوود).

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم "إنما مثل ذلك مثل شيطانة لقيت شيطانا في السكة فقضى حاجته والناس ينظرون إليه " (رواه أحمد وأبو داوود).

ولا شك أن مثل هذا السر من أعظم الأسرار، وإفشاؤه من أخطر الأخطار، ولا يفعل ذلك إلا حمار!

والعاقلة تحافظ على سرها وسر زوجها، بل كل سر يسر إليهما به ينبغي الحفاظ عليه، وها هي فاطمة- رضي الله عنها - يسر إليها أبوها صلى الله عليه وسلم حديثا فلما سألتها عائشة عنه قالت: ما كنت لأفشي سره. وكذلك أم سليم- رضي الله عنها- تقول لابنها أنس: لا تخبرن بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا (رواه مسلم).



29- العاقلة وحفاظها على غيرة زوجها



الغيرة فطرة فطر الله البشر عليها، تزيد وتنقص بين الناس، فتزيد عند البعض حتى أنه لربما شدد على زوجته فحرم عليها ما أحل الله، وتقل عند البعض حتى أنه ليحل لزوجته ما حرم الله، فيتركها تخالط الرجال ويخالطونها، يجلسون معها ويصافحونها، ومثل هذا لا شك في أن النبي صلى الله عليه وسلم وصفه بأنه "ديوث" لا يغار على أهل بيته ومحارمه.

ودرسُنا هنا مع أسماء بنت أبي بكر- رضي الله عنها- التي تلقن المسلمات درسا في الغيرة، فكانت تمشي يوما تحمل على رأسها علفا لفرس زوجها الزبير رضي الله عنه تقول: فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر- بضعة أفراد- فدعاني، فقال: إخ، إخ- للجمل- ليحملني خلفه، فاستحييت وذكرت الزبير وغيرته، قالت: فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم... (رواه البخاري ومسلم).

قال النووي: قال القاضي عياض: هذا خاص للنبي صلى الله عليه وسلم، بخلاف غيره، فقد أمرنا بالمباعدة من أنفاس الرجال والنساء، وكانت عادته صلى الله عليه وسلم مباعدتهن ليقتدي به أمته، قال: وإنما كانت هذه خصوصية له، لكونها بنت أبي بكر، وأخت عائشة، وامرأة للزبير، فكانت كإحدى أهله ونسائه، مع ما خُص به صلى الله عليه وسلم أنه أملك لإربه، وأما إرادف المحارم فجائز بلا خلاف بكل حال. أقول: فهل يفهم أهل التخليط والهوى؟!!



30- العاقلة وواجباتها الزوجية



قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الزوجة الصالحة:"خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك " (السلسلة الصحيحة للألباني).

ومن حفظ المرأة لنفسها في غياب زوجها ألا تدخل عليها أحدا يكرهه، ومعنا قصة المرأة التي كان زوجها غائبا في الحرب في جيش عمر بن الخطاب، فجلست وحيدة لا أنيس لها، فقالت شعرا في ذلك تبين فيه أنها رغم وحدتها وخلوتها فإنها ستحفظ زوجها في غيابه بحفظ نفسها، فلن تدخل أحدا عليها فيدنس فراشه وينتهك حرمته، وكان مما قالته:

طال هذا الليل تسرى كواكبه وأرقنـي ألا خليل ألاعبه

فوالله لـولا الله أنـي أراقـبه تحرك من هذا السرير جوانبه

مـخافة ربي والـحياء يصدني وإكرام ببعلي أن تنال مراكبه



ومن اهتمام العاقلة بحقوق زوجها ما فعلته زوجة رباح القيسي؟! ! قال رباح: ذكرت لي امرأة فتزوجتها، فكانت إذا صلت العشاء الاخرة تطيبت وتدخنت- أي من البخور- ولبست ثيابها- أي ملابس الفراش- ثم تأتيني فتقول: ألك حاجة؟ فإن قلت: نعم كانت معي، وإن قلت لا، قامت فنزعت ثيابها ثم صفت بين قدميها حتى تصبح.



31- العاقلة وحسن تدللها مع زوجها



لا شك أن الرجل الحصيف يعطي زوجته الفرصة لتمزح وتتدلل معه، بل ويدللها هو، فإن ذلك من حسن العشرة التي أمر الله تعالى بها في قوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ...} [النساء:19]، وإذا كان الأمر كذلك فلا غرابة أن نرى عائشة- رضي الله عنها- تقول: يا رسول الله، أرأيت لو نزلت واديا وفيه شجرة قد أكل منها، وشجرة لم يؤكل منها، في أيها كنت ترتع بعيرك؟ قال صلى الله عليه وسلم: " في التي لم يُرتع منها". قالت - رضي الله عنها-: فأنا هي (رواه البخاري).

ومثل هذا الحديث يُدخل السرور في نفس الزوج، وهي تقصد- رضي الله عنها- أنه تزوجها بكرا، ولم يسبقه إليها أحد قبله صلى الله عليه وسلم، مثل الشجرة التي لم يؤكل منها، وهذا من حسن العشرة، وتأتي الأمور والتدلل مع الزوج. وتقول أيضا: سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته فلبثنا حتى إذا أرهقني اللحم - أي سمنت- سابقني فسبقني، فقال: " هذه بتلك " (رواه النسائي.



32- العاقلة وعون زوجها على طاعة ربه



أم كلثوم بنت الصديق- رضي الله عنهما- ترى زوجها أبا طلحة بن عبيد الله مهموما لم ينم ليلته، وكان غنيا فتسأله عما أهمه وأقض مضجعه، فقال لها: أتاني من حضرموت سبعمائة ألف درهم، فتفكرت منذ الليلة، فقلت: ما ظن رجل بربه يبيت وهذا المال في بيته؟ قالت: فأين أنت عن بعض أخلائك وأصحابك؟ فإذا أتى الصباح فادع بجفان وقصاع- أواني- وقسمه بينهم، فقال لها: رحمك الله، إنك موفقة بنت موفق، فلما أصبح دعا بجفان ووضع فيها المال، فقسمه بين المهاجرين والأنصار، ولم يكد يترك لبيته شيئا، فقالت له: أبا محمد، أما كان لنا في هذا المال من نصيب؟ فقال أين أنت منذ اليوم؟ فشأنك بما بقي، قالت: فما بقي إلا صرة فيها نحو ألف درهم.

نعم، فإن أم كلثوم زوجة أبي طلحة لم تجعل الدنيا أكبر همها، فهي تربية أبي بكر الصديق، وأخت عائشة، وزوجها أحد العشرة المبشرين بالجنة، ومثلها تعد من أمهات نساء الإسلام، عون للزوج على طاعة ربه، لكننا نرى حفيداتها اليوم ولسان حالهن يقول: نفسي نفسي، فساتيني، موضتي، بيتي، حفلاتي، صديقاتي، لكن العاقلة تعلم قول الله تعالى: {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ} [يوسف:109].



33- العاقلة وعون زوجها في عمله



تقول أسماء بنت الصديق- رضي الله عنها-: تزوجني الزبير وما له شيء غير فرسه، فكنت أسُوسُه- أي أقوم عليه بما يصلحه- وأعلفه، وأدق لناضحه النوى، وأستقي وأعجن، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير- التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم- على رأسي، وهي على ثلثي فرسخ- ثلاثة كيلو مترات تقريبا- قالت: حتى أرسل إلي أبو بكر بعد بخادم فكفتني سياسة الفرس، فكأنما أعتقني. (رواه البخاري ومسلم وغيرهما).

وقولها: فكأنما أعتقني، يدل على شدة المعاناة والتعب الذي كانت تلقاه من ذلك العمل، لكن المرأة كلما استطاعت معونة زوجها في حدود طاقتها فلتفعل، وهي في ذلك في عداد الصالحات.



34- العاقلة عند غضب زوجها



لنسائنا وبناتنا في أمهات المؤمنين أسوة، وخاصة معاملة الزوج، فالزوج بشر يعتريه الغضب، وعلى العاقلة أن تمتص غضب زوجها؛ إما ببشاشتها في وجهه حتى لا يزداد في غضبه، وإما بالانصراف من أمامه حال غضبه إن كان البقاء ربما يصعد الموقف ويزيد من الغضب، وإما بسؤاله بسرعة عما أغضبه لمحاولة إزالة سبب الغضب، وإبداء الاستعداد للاعتذار وإرضاء الزوج، وهذا ما فعلته أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- تقول أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخل، قالت: فعرفت في وجهه الكراهية، فقلت: أتوب إلى الله وإلى رسوله، ماذا أذنبت؟ قال:" ما بال هذه النمرقة؟" فقالت: اشتريتها لتقعد عليها وتوسدها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم ". وقال:" إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة" (رواه البخاري). فعائشة- رضي الله عنها- اشترت وسادة أو سجادة ليجلس عليها النبي صلى الله عليه وسلم، والظاهر أنها لم تعرف أن التصاوير التي عليها ممنوعة، فلذلك لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم من خارج بيتها ورأى الصور وقف غاضبا ولم يدخل، وهي لم تعلم سبب غضبه، فبادرت بالاعتذار والتوبة مما أغضبه صلى الله عليه وسلم، فبين لها أن الصور يعذب صانعوها يوم القيامة وإذا عُذب صانعوها عُذب من يستعملها مثلهم، فمزقت النمرقة وشقتها حتى شوهت الصورة، وجعلتها وسادتين.

ذكر ذلك ابن حجر - رحمه الله- في شرح الحديث وأوردته باختصار.



35- العاقلة عندما يطلقها زوجها



في أول ظهار وقع في الإسلام، قال أوس بن الصامت لزوجته: أنتِ علي كظهر أمي، وكان الظهار عند أهل الجاهلية يعد طلاقا، فشق ذلك على زوجته، فقد كانت وحيدة، فقيرة، ذات صبية صغار، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستفتيه في أمرها، فقال لها: " ما أراكِ إلا وقد حرمت عليه ". فحزنت واشتكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وراجعت النبي صلى الله عليه وسلم وحاورته وجادلته مرة بعد مرة، وهي تنظر إلى السماء وتشتكي وتقول: أشكو إلى الله مما لقيت من زوجي حال فاقتي- فقري- ووحدتي، وقد طالت معه صحبتي ونفضت له بطني- يعني وَلَدَت له كل ما في بطنها- وتقول: اللهم أنزل على لسان نبيك، يعني وحيا يحل المشكلة.

وسبحان من وسع سمعه الأصوات: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1].

وجاء الوحي بالفرج، جاء بالكفارة فنزل الوحي، وقد قامت عائشة تغسل شق رأسه صلى الله عليه وسلم.

ما أعظم الشكوى إلى الله واللجوء إليه حين تلجأ العاقلة إلى ربها وخالقها وقت الشدة، تدعوه وتشتكي إليه: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62]، بدلاً من أن تشتكي إلى أمها وأبيها والجيران وكل من يعنيه الأمر ومن لا يعنيه، وتلجأ إلى المحاكم وشهود الزور وتطول القضية، وتسوء العاقبة.



36- العاقلة عندما تطلب هي الطلاق من زوجها (الخلع)



جاءت حبيبة بنت سهل زوجة ثابت بن قيس وكان مسلما صالحا، وكان أسود دميما، فقالت: يا رسول الله، إن ثابت بن قيس لا أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكنني أكره الكفر في الإسلام (أي كفران نعمة الزوج والعشير وعدم إعطائه حقه بسبب بغضها لسواده ودمامته). فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتردين عليه حديقته؟" وكان أعطاها حديقة مهراً، فقالت: نعم، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، فقال له: " طلقها طلقة ". فطلقها ثابت. (أخرجه البخاري).

وذكر الحافظ في الفتح أنها قالت: يا رسول الله، لا يجتمع رأسي ورأس ثابت أبدا، إني رفعتُ الخباء فرأيته أقبل في عِدة هو أشدهم سوادا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجها. فقال: " أتردين... " الحديث.

وكثير من النساء إذا نوت الطلاق نوت الشقاق، لكن زوجة ثابت أتت بها صريحة صادقة، لأنها تعلم أنها سترجع إلى ربها يوما ويحاسبها على كل شيء، فلم ترد أن تعيش مع زوجها حياة مزيفة، تبخسه فيها حقه بسبب بغضها لشكله وهيئته، وفي نفس الوقت قررت أن الطلاق (الخلع) رغبة منها، فلم تظلمه ولم تزعم أنه هو المطلق لتضيع عليه حقه ومهره، وما أحوج نساءنا لهذا الخلق.



37- العاقلة والحذر من المحلل



عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن رفاعة القرظي تزوج امرأة ثم طلقها فتزوجت آخر، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له أنه لا يأتيها، وأنه ليس معه إلا مثل الهدبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " أي: يستمتع كل منكما بالآخر استمتاعا كاملا، والعسيلة: هي لذة الجماع، وشبهها النبي صلى الله عليه وسلم بذوق العسل، وجاءت عسيلة مؤنثة لتأخذ معنى النطفة.

وأيضا الغميضاء أو الرميصاء- زوج عمر بن حزم- طلقها زوجها، فتزوجها رجل آخر، فطلقها قبل أن يمسها، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى زوجها الأول، فقال صلى الله عليه وسلم: " حتى يذوق الآخر من عسيلتها... " الحديث.

والحقيقة فإن مجيء تلك النساء لتستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم في جواز العودة إلى الزوج الأول من عدمه يدل على الخشية من الوقوع في الحرمة والإثم، كما يدل على عدم التجرؤ على حدود الله جل وعلا، وعدم التحايل على ما يسمى " بالمحلل"، في حين أننا نرى في زماننا الجرأة الواضحة على شرط القرآن: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}، وشرط السنة: " حتى يذوق من عسيلتها".

فالمرأة إذا طلقت ثلاثا حرمت على زوجها ولا يمكنها الرجوع إليه حتى تتزوج زوجا غيره وتعيش معه حياة عادية تفضي إليه ويفضي إليها ويستمتع كل منهما بالآخر، بحيث لا تفارقه حينئذ إلا بموته أو بطلاقه إياها طلاقا عاديا ليس فيه التحايل والتلاعب بشرع الله وحدوده، قال الله تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235].



38- العاقلة ورجاحة عقلها في حل مشاكل زوجها



ها هي خديجة بنت خويلد زوج النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه الملك في غار حراء، ارتاع ورجف وخاف على نفسه صلى الله عليه وسلم، فجاء إلى خديجة وأخبرها الخبر، ثم قال: " لقد خشيت على نفسي ". فوقفت خديجة- رضي الله عنها- موقف العاقلة البصيرة التي تستشف روح الأحداث، فقالت له: ((كلا، أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا، فوالله إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث، وتحمل الكَلَّ (المثقل بإعاشة عياله)، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فطمأنته حين قلق، وأراحته حين جهد، وذكرته بما فيه من فضائل، مؤكدة له أن الأبرار أمثاله لا يخذلون أبدا، وبهذا العقل الراجح والقلب الصالح استحقت خديجة أن يجيبها رب العالمين فيرسل إليها السلام مع الروح الأمين.

وكذلك أم سلمة رضي الله عنها وهي زوج النبي أيضا، وكانت تعرف بأنها عاقلة حكيمة حليمة، فلما رد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العمرة بالحديبية وأجروا معه صلحا على أن يؤدي العمرة هو وأصحابه من العام القادم، وكان كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ممتعضا لما يرى في الظاهر من إجحاف شروط المعاهدة على المسلمين، فلما تأجلت العمرة إلى العام التالي وهم محرمون، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " قوموا فانحروا ثم احلقوا ". ليتحللوا من إحرامهم وعمرتهم ويعودوا إلى المدينة، فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد، دخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس (أصحابه) فقالت أم سلمة: يا نبي الله، أتحب ذلك؟ - أي أن يطيعوك- اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك (الإبل) وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج صلى الله عليه وسلم فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك، فلما رأوا ذلك قاموا- عجلين- فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما(رواه البخاري وابن حبان وغيرهما). أي لشدة الغيظ على الكافرين.

بهذا الحلم ورجحان العقل من أم سلمة- رضي الله عنها- وثبات قلبها وهدوء نفسها عندما تبلغ الشدة ذروتها، تستطيع أيضا كل زوجة أن تكون من أعظم أهل العقل والشورى لدى زوجها. وكم من النساء من هن أعباء فقط على أزواجهن والعاقلة لا تكون كذلك.



39- العاقلة ومعاملة الشابات حديثات السن



عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: " والله لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم على باب حجرتي، والحبشة يلعبون بحرابهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسترني بردائه لكي أنظر إلى لعبهم، ثم يقوم من أجلي حتى أكون أنا التي أنصرف ". ثم تقول: " فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو ". وفي رواية البخاري: " التي تسمع اللهو" (رواه مسلم والبخاري).

قال النووي: " وفيه جواز نظر النساء إلى لعب الرجال، نظر إلى نفس البدن، وأما نظر المرأة إلى وجه الرجل الأجنبي فإن كان بشهوة فحرام بالاتفاق، وإن كان بغير شهوة ولا مخافة فتنة فالأصح أنه محرم، وأجاب عن هذا الحديث بأنه يحتمل أن يكون ذلك قبل بلوغ عائشة، أو كانت تنظر إلى لعبهم بحرابهم لا إلى وجوههم وأبدانهم، وإن وقع بلا قصد أمكن أن تصرفه في الحال ".

فعائشة رضي الله عنها تريد ألا تقهر الشابة الحديثة السن العَربة كما في رواية مسلم وهي المتدللة، ولا تعامل- بمجرد زواجها- معاملة الزوجة الكبيرة الخبيرة، الهادئة الزاهدة، والنبي صلى الله عليه وسلم هو خير قدوة في بيان ذلك، حتى أنه رأى مرة بنات لعائشة لُعَب، فقال: " ما هذا يا عائشة؟ " قالت: بناتي، ورأى بينهن فرسا له جناحان من رقاع- رقعة جلد- فقال: " ما الذي أرى وسطهن؟" قالت: فرس، قال: " وما هذا الذي عليه؟" قالت: جناحان، قال: " فرس له جناحان؟" قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلا لها أجنحة؟ فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه (رواه البيهقي وأبو داوود).

فعائشة رضي الله عنها عروس، وفي بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ولها لُعَب (بنات) تلعب بها، والنبي صلى الله عليه وسلم يضحك لأنه خير من يحسن عشرة النساء ويراعي سن الشابة والزوجة كل على قدر حالها، فهو خير الناس لأهله صلى الله عليه وسلم.



40- العاقلة ومؤهلات الزوجة الدينية



لما ماتت خديجة رضي الله عنها، اشتد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فسئل عن ذلك، فقال: " أجل، كانت أم العيال وربة البيت ". وعندما أرادت خديجة أن يتوجه النبي صلى الله عليه وسلم في تجارتها قالت: " إنه دعاني إلى البعث إليك، ما بلغني من صدق حديثك، وعِظَم أمانتك وكرم أخلاقك".

فما اختارته لتجارتها إلا لما فيه من صفات ومؤهلات دينية يحبها الله ورسوله، ولا تفعل ذلك إلا من فيها هذه الصفات وتلك المؤهلات.



قال ابن حبان: وكانت خديجة امرأة حازمة شريفة لبيبة... بعثت إلى الرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: إني قد رغبت فيك وفي قرابتك وفي أمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك (رواه ابن حبان).

ولما وجدت ميل النبي صلى الله عليه وسلم إلى زيد بن حارثة وكان في ملك يمينها، وهبته للنبي صلى الله عليه وسلم. فكانت هي السبب فيما امتاز به زيد من السبق إلى الإسلام، حتى قيل إنه أول من أسلم مطلقا.

فصدق الحديث، وعظم الأمانة، وكرم الخلق، والجود، كلها صفات ربانية، وكلها كانت مؤهلات خديجة في اختيار النبي صلى الله عليه وسلم لتجارتها ثم اختياره كزوج، رغم أنها قد تمناها أكابر قريش ورؤساؤها وكانت ترفضهم، ومثل هذه استحقت أن يتوجها النبي صلى الله عليه وسلم بتاج النجاح والفلاح، فيقول: " كانت أم العيال وربة البيت ".

فانظري أيتها الأخت المسلمة كيف كانت رعاية الأولاد وإدارة البيت وساما نبويا على صدر خديجة- رضي الله عنها - في الوقت الذي نرى في كثير من بيوت المسلمين؛ أمر تربية الأولاد وإدارة البيت موكولاً فقط إلى الخادمة!



41- العاقلة والزهد في المال وإنفاقه والتطلع إلى ما عند الله



بعث معاوية بن أبي سفيان لابنه بثمانين ألف درهم إلى عائشة- رضي الله عنها- وكانت صائمة وعليها ثوب خلق (بالي)، فوزعت هذا المال من ساعتها (في الحال) على الفقراء والمساكين.. ولم تبق منه شيئا، فقالت لها خادمتها: يا أم المؤمنين، ما استطعت أن تشتري لنا لحما بدرهم تفطرين عليه؟ فقالت: يا بنية، لو ذكرتني لفعلت.

ومن المواقف العظيمة لأم المؤمنين رضي الله عنها في الإنفاق والزهد ما قاله الإمام مالك رحمه الله في موطئه، قال: أنه بلغه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم؛ أن مسكينا سألها وهي صائمة، وليس في بيتها إلا رغيف، فقالت لمولاة لها: أعطيه إياه، فقالت: ليس لك ما تفطرين عليه، فقالت: أعطيه إياه، قالت: ففعلت، قالت: فلما أمسينا أهدى لنا أهل بيت أو إنسان؛ ما كان يهدى لنا؛ شاة وكفنها، فدعتني عائشة أم المؤمنين فقالت: كلي من هذا، هذا خير من قرصك.

وعن مالك أيضا قال: بلغني أن مسكينا استطعم عائشة أم المؤمنين، ويين يديها عنب، فقالت لإنسان: خذ حبة فأعطه إياها، فجعل ينظر إليها ويعجب، فقالت عائشة: أتعجب! كم ترى في هذه الحبة من مثقال ذرة!

نعم {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7، 8].. وهذا ما فهمته عائشة رضي الله عنها.

وعن عطاء بن السائب قال: أوصى إلي رجل من أهل الكوفة في تركته وذكر أنه مولى لآل علي بن أبي طالب، فقدمت المدينة فدخلت على أبي جعفر؛ محمد بن علي، فقال: ما أعرفه، ودلني على (أخته) أم كلثوم بنت علي، فإذا عجوز على سرير في بيت رث، فإذا في البيت سقاء معلق، فجعلت أقلب بصري في البيت، فقالت: يا بني، لا يحزنك ما ترى، فأنا بخير، قلت: أوصى رجل إلي بتركته، وذكر أنه مولى لكم، قالت: ما أعرفه، وإن مولى لنا يقال له هرمز أو كيسان أخبرني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يا كيسان، إن آل محمد لا يأكلون الصدقة، وإن مولى القوم من أنفسهم فلا تأكله".

فانظري أيتها المسلمة لهذا النموذج الفذ العظيم، ليس عندها في البيت متاع إلا ما يبلغها وبحفظ حياتها " وتقول لعطاء: يا بني لا يحزنك ما ترى، فأنا بخير، نعم هي بخير مادامت تشعر بأنها قريبة من ربها وأن الدنيا ليست دار مقر، وأن الآخرة خير وأبقى.

أما عمر رضي الله عنه فقد أرسل إلى أم المؤمنين زينب بنت جحش -رضي الله عنها- نصيبها من العطاء، فلما أدخل عليها قالت: غفر الله لعمر، غيري من أخواتي كان أقوى على قَسْم هذا مني، قالوا: هذا كله لك، قالت: سبحان الله! واستترت من المال بثوب، وقالت: ضعوه واطرحوا عليه ثوبا، قالت بَرَّة أو برزة بنت رافع راوية الحديث: ثم قالت لي: أدخلي يدك فاقبضي منه قبضة فاذهبي بها إلى بني فلان وبني فلان من أهل رحمها وأيتامها، فقسمت حتى بقي منه بقية تحت الثوب، فقالت لها برة: غفر الله لك يا أم المؤمنين، والله لقد كان لنا في هذا حق، فقالت: فلكم ما تحت الثوب، قالت: فكشفنا فوجدنا ما تحته خمسة وثمانين درهما، ثم رفعت أم المؤمنين يدها، فقالت: اللهم لا يدركني عطاء عمر بعد عامي هذا. فتوفيت من عامها.

ومن هنا نرى أن أم المؤمنين:

أولا: كرهت مجيء هذا المال إليها.

ثانيا: سترته بثوب عن وجهها لتحفظ عينيها من النظر إلى فنته، ومن ثم لا يصل إلى قلبها حب ذلك المال.

ثالثا: أمرت الجارية أن تقبض منه بيدها لتحفظ أم المؤمنين يدها من مس ذلك المال فتؤثر في يدها فتنته.

رابعا: دعت الله ألا يدخل عليها مثل هذا المال بعد يومها، فاستجاب الله لها وقبضها. فالدنيا ليست هم أم المؤمنين، بل جعلت المال وسيلة لنيل أعلى درجات الآخرة، ولم تجعله هدفاً، كما هو في حياة الكثيرين اليوم.



42- العاقلة ومال زوجها



المرأة مأمورة أن تحافظ على مال زوجها، فهي مؤتمنة عليه وهي عندئذ من خير النساء كما بين ذلك رسولنا صلى الله عليه وسلم في قوله: " خير النساء من تسرك إذا أبصرت وتطيعك إذا أمرت وتحفظ غيبتك في تمسها ومالك ". وليس لها أن تتصرف في شيء منه إلا بإذنه ما دام أنه يحسن الإنفاق عليها وعلى بيتها وأولادها، لكنه في حالة ما إذا كان الزوج شحيحا في الإنفاق على أولاده، فيجوز أن تأخذ المرأة من ماله بدون علمه وإذنه ما يكفيها وأولادها بالمعروف، كما أذن بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.

عن أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- أن هند بنت عتبة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان- زوجها- رجل مسيك، وفي رواية: شحيح، فهل علي حرج أن أطعم من الذي له عيالنا؟ قال: " لا أراه إلا بالمعروف ". وفي رواية: " خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك وولدك " (رواه البخاري ومسلم وغيرهما).


......