في قصتها (خلف الأسوار العالية ) قدمت لنا الكاتبة رانيا مأمون أسوبا قصصيا مميزا ، ليس فقط في قوة لغة سردها ، ولا حتى في خلق حبكة شديدة اللفت ، بل في المضامين الفكرية والإنسانية التي نفخت روحها في القصة وللوشي الذي وشت به جسد القصة .
ندخل في القصة :
فكرة القصة تصب في مقاومة أدبية للظلم الطبقي الحاكم ، ومدى لصوقه بالتاريخ والأمس واليوم (لا أحد يعلم شيئاً وكأنهم ناموا ذات ليلة نوماً عميقاً هانئاً بعد أداء واجباتهم العادية والليلية وغير العادية وغير ليلية ليتفاجئوا فى الصباح بهذا البناء الضخم الجميل الساحر بأحجاره الملونة وأنواره المضيئة ليلاً بكثافة شاملة مساحة واسعة حول البناء الواقع وحيداً فى الركن البعيد من البلدة ؛ كأنه نبت هكذا عملاقاً من جوف الأرض).
بواقعية ذات الحدس الوصفي المؤلم الساخر والجريء أديرت دفة الحبكة ، فالمبنى تحاك حوله الأساطير من أنه : (سمعوا من الكبار سناً الحكايا عن هذه السرايا .. فمنهم من يزعم أنها مقبرة لمن يلقى حتفه فى الإعتقال ومن يصرّ على كثرة الحديث بالحق أو بالباطل .. ومنهم من يعتقد أنها مركز أبحاث يُنتج فيه بشراً بمواصفات خاصة أهمها أن لا يقول "لا " أبداً ولا يعرف معناها ويجزم هؤلاء أنهم رأوا إنتاج هذا المركز من البشر ذوى المواصفات الخاصة .. وبعض الكبار من أهل البلدة يظن أنها مصنع سلاح أو طائرات أو صواريخ).
في حين أنه في حقيقة أمره ، ليس سوى هيلمانة مستمرة على مدى قرون ( سمعوا من الكبار ) وهذه الهيلمانة تقوم على أساسين :
1ـ عقدة العاو وخرافة المجهول المرعب .
2ـ حجب الحقيقة ( السور ) .
وحالما توجد الشجرة القائمة على أجساد الناس ( التكاتف الاجتماعي لدفع الظلم ) فإن الزيف سينجلي وتسقط الكذبة . ولا تسقط بالأساليب الفردية والبدائية ( القضيب والسلم ) .
أشيد بالقدرة على إضفاء بيئة وصفية متباعدة لا تصل غرابتها إلى المحال ، وبالحرص إخراج بعض نواحي الحياة المنسية وتسليط الضوء عليها ، لأن من مقومات القصة مدى صدقها ومباشرتها في نقل صور شتى من أشكال الحياة الإنسانية ومن طباع النفس البشرية المختلفة ، مثل : ((وكأنهم ناموا ذات ليلة نوماً عميقاً هانئاً بعد أداء واجباتهم العادية والليلية وغير العادية وغير ليلية ليتفاجئوا فى الصباح بهذا البناء الضخم )).((فهى مجرد خراب ملىء بأوراق الأشجار الصفراء المتساقطة وأكياس النايلون وأخشاب وحجارة وأوراق كثيرة يحركها الهواء فتطير من جهة إلى أخرى و.. و.. و.. وكلباً ضخماً ينبش فى تلةٍ من القمامة باحثاً عن رزقه)).((دائماً ما كانوا يجابهون بالسباب واللّعان والزجر والوعيد من حارس تلك السرايا الذى لا ينسى سلاحه أبداً ويظلُ ممسكاً به على الدوام .. واقفاً كان أم جالساً .. غافياً أو فاتحاً أعينه التى تشبه عيون الثعالب راسماً تلك النظرة المتحفزة المتوثبة حتى ظنوا أن سلاحه هذا وُلد معه كرجله أو يّدِه أو أذنيه مكملاً لأعضائه)).
هذه لغة سردية راقية جدا ، ذات تعمق جريء في تحليل مظاهر السلوك البشري وربطه بالرواسب القيمية والغريزية في لغة متماسكة ذات وضوح غامض ، مع تجنب ميلان كفة السرد إلى صورة بعينها ، بل في اتساق وتناغم سردي يشعرك أنك تقرأ سيمفونية متواصلة من البداية إلى النهاية .
أتمنى أن يتخذ الكتاب مثل هذه القصة أنموذجا يحتذى به .
يجدر بي التنبيه أن هذا الرد رد قديم وقد اكتفيت بنسخه إلى هنا .
يمكن قراءة النص من خلال هذا الرابط :
http://www.mkaan.net/vb/showthread.php?threadid=5182