أبو لثمة (قصة قصيرة)
كان من السهل على المهندس عز الدين نمر أن يصدق أنه مسطول بتأثير شراب ما ، ولكنه كان بعيدا عن الجزم بأنه يحلم ؛ وألقى خمول حواسه في روعه أنه صحا للتوّ بذهن مشتّت عجنه النوم الرديء ،فأتبع هذا الظنّ بالتساؤل الحائر الذي يعقب كل ليلة من لياليه المجهدة :
- " ترى ماذا شربت البارحة ".
لم يصل إلى الطمأنينة الكاملة،ولكن سارت أفكاره غير متيقظة صوب الاعتقاد بأنه مستيقظ، وقد كان من الوارد جدا أن يدرك خطأه سريعا لو تنبه لاستنجاد حواسه ، فقد التقطت حاسة اللمس وقع تهشم للدرج تحت قدميه وهو يهبطه،فتجاهل الأمر دون أن ينظر إلى أسفل قدميه،وعزاه إلى أنه هشيم من مخلفات البناء التي تعلق بأحذية العمّال، واشتمّ شيئا مثل رائحة نمل فركته أصابع متعرّقة،فاعتبره يوما سيئا للنمل لا أكثر ولا أقلّ ولا تهم باقي التفاصيل، ثم انتهى أخيرا إلى الفناء، فوجد العمّال مستغرقين في العمل في صبّ أساسات البناء الجديد ،قبل بدء وقت الدوام الرسمي،وكان أحدهم من أبناء بلده ، فصاح به بحشرجة :
- " ما القصة يا حامد " ؟
لم يسمعه ،وأشار بيده علامة الجهل واقترب ، فاستطاعت عين عز الدين أن تميز الطبقة الرقيقة التي جلّلت بها سحب الغبار رأسه، أجاب حامد:
- راحت عليك ، المدير جاء وأفطرنا مبكرا ، وباشرنا العمل.
إذن فهم زهدوا في نومة الضحى لهذه الصبيحة ، وتناولوا الإفطار دون إيقاظه !
لم يزد على أن شعر بالكسل يعاجله ، لأنه مضطرّ لركوب الدراجة وشراء الفطور ، وقد كان يأمل أن يراه المدير على رأس العمل ، وينتهز الفرصة ليكلمه،لعلّه يتوسّط ويدبّر له تذكرة عاجلة للسودان ، ردّد بينه وبين نفسه :
-"يا له من يوم ملعون ".
وهدأت بلابله فيما يتعلق بهاجس الحلم؛ سخر من تورّطه في مجرد الظنّ أنه يحلم، وكيف يصدق أنه يحلم ولم يظهر الرجل الملثّم بعد، وقد عرفته أحلامه بطلا قسريّا لها ، ويوم أن كان في السودان ، كان يظهر كبير العِمّة شديد بياضها ، وكأن على البياض دفقا من ضياء أو أنه يضيء من ذاته مثل كوكب درّيّ، وطوال الحلم يبقى ملثّما بعرف عمامته إلى أسفل الذقن، وبين العمامة والجلباب الفضفاض يلمع سواد رقبة بارزة القصبة.
وكانت فترة أحلام السودان حافلة بالتهديد والوعيد بإفلاس متجرالخضروات الصغير.يجرجره أبو لثمة في كوابيس يمسك بزمامها،تتركّز في الفقر المدقع الذي يحيق به ،فيريه بناته يتكففن الناس في طرق لا عهد له بمعرفتها، يأكلن العجين الحافي ، ويلقي بهن غثيان الحر والجوع على أرض يوليو.
وتخلى الرجل الملثم في أحلام السعودية عن شيء وحيد هو العِمّة،وصار يلبس غترة طويلة يثبتها عقال ثخين،ولكنه حافظ على اللثام والعنق المكشوفة ذات القصبة اللامعة، واستمرّ في الوعيد الشديد بالبطش بالأسرة.في الغالب على أيدي لصوص مردة يخطفون الحلوى البلدية من أفواه بناته ، ويهشمون بأيديهم العملاقة دمى القصب والقش ،أو يقود أبو لثمة ثلة من مجرمين يتأجج في عيونهم سعير الشهوة ،يتبرّع لهم بالدلالة في جنح الليل الغافي في أحضان الغفلة، يشير لهم إلى البيت الذي غاب عنه حامي حماه ، يقهقه وهو يطمئنهم:
- " لا شيء وراء خصاص الباب إلا عيون مذعورة".
ويقضي على كل ثمالات ترددهم برفس الباب برجله القوية ،والسكون ينبئ بوأد كل الاستغاثات قبل استصراخها، فينهدّ الباب إلى الداخل كطلقة رصاص ، مثيرا ذرات القذى والغبار الذي خبأته سنيّ الدعة في شقوق الجدران ، وينقضون كالقردة ، ليدنسوا طهر العفّة.
لم يسعف عز الدين ذهنه باصطياد أي ملمح من ملامح الحلم ،رأى عاملا آسيويّا يتمرغ منتشيا في وحل خلطة البناء ، لكنه عدّه نوعا من الترفيه المريض، وشرّد آخر شكوكه بأن همس لها:
- "ما دام النذل لم يظهر بعد فأنا لا أحلم ، لا شكّ في هذا".
ركب درّاجته قاصدا المطعم الذي يستغرق بلوغه خمس دقائق من الضغط المتمهل على دعسات الدراجة، وخلت الشوارع من كل نبأة ونأمة ، فقال مزدريا:
- "كسالى ، لم يفِقْ منهم أحد حتى الآن".
لكن الشكّ تسرّب إليه لما فطن إلى خلوّ شارع الخدمات من السيارات مع أنه يعجّ بالناس، غزى التوجس شراينه ثم عشعش في خلاياه ، ترجّل من درّاجته ، فهاله للتّوّ على الرصيف مرأى لكلب ضخم برأس قطّ مشوّه مهروس ومغطّى بالدم الأسود المتخثّر،كرؤوس القطط التي تقضي نحبها تحت إطارات السيارات، وهاهنا برز أبو لثمة أمامه بروز موت الفجاءة، صعّد عزّ الدين فيه العين وهبط بها كما تمرّس بأن يبدئ ويعيد، فهجس أن ثمة تحوّلا طارئا في القسمات، بين غضون الجبهة وطرف عرنين الأنف ، وكأنه جزء من وجه مدير المشروع، هاله هذا التداعي الذي يحاول أن يجرّه إليه الخداع البصريّ ، وذكّر نفسه -مصرّا على أسنانه- بأنه يحلم.
وكأنّ الرجل الملثم ضاق ذرعا بهذا التماسك الذي يتغذى بالحذر المتنامي ويسدّ عليه باب التمادي في ألاعيبه ، فرفع يده وسحب إلى الأسفل حبلا ، هبطت بطّانية بنية قذرة كخيمة مختصرة، انحشر في ضيقها جسدان محترقان عرف فيهما أمه وأباه. حافظ عز الدين على تماسكه ، فتلمظ أبو لثمة ، وسحب حبلا آخر نزلت معه بطانية هزّازة للأمام وللخلف ، تجوب سقفها أفاعٍ تظلل زوجته وصباياه ، صرخ عز الدين وضرب يد أبولثمة فاختفى كل شيء، وعاد الشارع إلى حركته ، وظهر الكلب المشوه كلبا عاديا يلهث عطشا من شدة حرّ الضحى، وفي بناية قريبة كان عامل طلاء يغطي رأسه بكرتون مربوط بحبل إلى أسفل ذقنه، والعرق يسيل على قسماته السمراء.
ظلّ أبو لثمة واقفا وفي عينيه انتصار ناطق ، وتلفت عز الدين يمينا وشمالا ، فاستراح إلى أنّ أحدا لم ينتبه إلى عنفه وصراخه،وعاود العزم على ألا يقع فريسة للخداع ثانية، تمتم أبولثمة بصوت مبحوح:
-"لئيم ، الأب والأم تتقبل مصابهما بقلب بارد ، والزوجة والصبايا تبذل دونهن حلاوة الروح".
أدرك أنه لم يفرغ بعد من العبث به ، هذه المرّة بأسلوب عقدة الذنب ، تجاهله وأدار له ظهره وتركه واقفا حيث هو.ركب دراجته عائدا إلى موقع البناء والعمال ، وأسرع بالتجديف على دعاسات الدراجة حتى تنمّلت عضلات ساقيه وفخذيه ،وكان يحاول ألاّ يلتفت إلى الخلف أبدا ، لأنه يعتقد أن الالتفات إلى الخلف قد يمنح أبو لثمة فرصة جديدة لإيذائه ،وقد يلتفت ولا يجده في أثره ، ولكنه يخشى أن يعود بنظره إلى الأمام ليجد أن مقود الدراجة قد تحوّل إلى شيء لدنٍ كالبيتزا الحارّة الطازجة ، وساعتها قد ينقلب على وجهه ويصاب بجروح بالغة ، خاصة وهو مندفع إلى الأمام بكل هذه السرعة الجنونية.

تمت