وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾


تفسير قوله تعالى:﴿ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾

قال العلامة القرطبي-رحمه الله تعالى-:
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ
الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : ﴿ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْك ﴾ الْمَعْنَى : قَدْ أَغْنَيْتُك بِالْقُرْآنِ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاس ; فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ ; أَيْ لَيْسَ مِنَّا مَنْ رَأَى أَنَّهُ لَيْسَ يَغْنَى بِمَا عِنْده مِنْ الْقُرْآن حَتَّى يَطْمَح بَصَره إِلَى زَخَارِف الدُّنْيَا وَعِنْده مَعَارِف الْمَوْلَى . يُقَال : إِنَّهُ وَافَى سَبْع قَوَافِل مِنْ الْبُصْرَى وَأَذْرِعَات لِيَهُودِ قُرَيْظَة وَالنَّضِير فِي يَوْم وَاحِد , فِيهَا الْبُرّ وَالطِّيب وَالْجَوْهَر وَأَمْتِعَة الْبَحْر , فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ : لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَمْوَال لَنَا لَتَقَوَّيْنَا بِهَا وَأَنْفَقْنَاهَا فِي سَبِيل اللَّه , فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاك سَبْعًا مِنْ الْمَثَانِي ﴾أَيْ فَهِيَ خَيْر لَكُمْ مِنْ الْقَوَافِل السَّبْع , فَلَا تَمُدَّنَّ أَعْيُنكُمْ إِلَيْهَا . وَإِلَى هَذَا صَارَ اِبْن عُيَيْنَة , وَأَوْرَدَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : {لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ } أَيْ مَنْ لَمْ يَسْتَغْنِ بِهِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي أَوَّل الْكِتَاب .
﴿أَزْوَاجًا مِنْهُمْ ﴾ أَيْ أَمْثَالًا فِي النِّعَم , أَيْ الْأَغْنِيَاء بَعْضهمْ أَمْثَال بَعْض فِي الْغِنَى , فَهُمْ أَزْوَاج .

الثَّانِيَة : هَذِهِ الْآيَة تَقْتَضِي الزَّجْر عَنْ التَّشَوُّف إِلَى مَتَاع الدُّنْيَا عَلَى الدَّوَام , وَإِقْبَال الْعَبْد عَلَى عِبَادَة مَوْلَاهُ . وَمِثْله ﴿ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْك إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَة الْحَيَاة الدُّنْيَا لِنَفْتِنهُمْ فِيهِ ﴾[ طَه : 131 ] الْآيَة . وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ النِّسَاء وَالطِّيب وَجُعِلَتْ قُرَّة عَيْنِي فِي الصَّلَاة } .
وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام يَتَشَاغَل بِالنِّسَاءِ , جِبِلَّة الْآدَمِيَّة وَتَشَوُّف الْخِلْقَة الْإِنْسَانِيَّة , وَيُحَافِظ عَلَى الطِّيب , وَلَا تَقَرّ لَهُ عَيْن إِلَّا فِي الصَّلَاة لَدَى مُنَاجَاة الْمَوْلَى . وَيَرَى أَنَّ مُنَاجَاته أَحْرَى مِنْ ذَلِكَ وَأَوْلَى . وَلَمْ يَكُنْ فِي دِين مُحَمَّد الرَّهْبَانِيَّة وَالْإِقْبَال عَلَى الْأَعْمَال الصَّالِحَة بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا كَانَ فِي دِين عِيسَى , وَإِنَّمَا شَرَعَ اللَّه سُبْحَانه حَنِيفِيَّة سَمْحَة خَالِصَة عَنْ الْحَرَج خَفِيفَة عَلَى الْآدَمِيّ , يَأْخُذ مِنْ الْآدَمِيَّة بِشَهَوَاتِهَا وَيَرْجِع إِلَى اللَّه بِقَلْبٍ سَلِيم .
وَرَأَى الْقُرَّاء وَالْمُخْلِصُونَ مِنْ الْفُضَلَاء الِانْكِفَاف عَنْ اللَّذَّات وَالْخُلُوص لِرَبِّ الْأَرْض وَالسَّمَوَات الْيَوْم أَوْلَى ; لَمَّا غَلَبَ عَلَى الدُّنْيَا مِنْ الْحَرَام , وَاضْطُرَّ الْعَبْد فِي الْمَعَاش إِلَى مُخَالَطَة مَنْ لَا تَجُوز مُخَالَطَته وَمُصَانَعَة مَنْ تَحْرُم مُصَانَعَته , فَكَانَتْ الْقِرَاءَة أَفْضَل , وَالْفِرَار عَنْ الدُّنْيَا أَصْوَب لِلْعَبْدِ وَأَعْدَل ; قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَأْتِي عَلَى النَّاس زَمَان يَكُون خَيْر مَال الْمُسْلِم غَنَمًا يَتْبَع بِهَا شَعَف الْجِبَال وَمَوَاقِع الْقَطْر يَفِرّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَن }.

﴿ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾
أَيْ أَلِنْ جَانِبك لِمَنْ آمَنَ بِك وَتَوَاضَعْ لَهُمْ . وَأَصْله أَنَّ الطَّائِر إِذَا ضَمَّ فَرْخه إِلَى نَفْسه بَسَطَ جَنَاحه ثُمَّ قَبَضَهُ عَلَى الْفَرْخ , فَجَعَلَ ذَلِكَ وَصْفًا لِتَقْرِيبِ الْإِنْسَان أَتْبَاعه .
وَيُقَال : فُلَان خَافِض الْجَنَاح , أَيْ وَقُور سَاكِن . وَالْجَنَاحَانِ مِنْ اِبْن آدَم جَانِبَاهُ ; وَمِنْهُ ﴿وَاضْمُمْ يَدك إِلَى جَنَاحك ﴾[ طَه : 22 ] وَجَنَاح الطَّائِر يَده .
وَقَالَ الشَّاعِر : وَحَسْبك فِتْيَة لِزَعِيمِ قَوْم يَمُدّ عَلَى أَخِي سَقَم جَنَاحَا أَيْ تَوَاضُعًا وَلِينًا .


و الله تعالى أعلم .
قال يحيى بن معاذ الرازي: " اختلاف الناس كلهم يرجع الى ثلاثة أصول، لكل واحد منها ضد، فمن سقط عنه وقع في ضده: التوحيد ضده الشرك، والسنة ضدها البدعة، والطاعة ضدها المعصية" (الاعتصام للشاطبي 1/91)