هنيئًا لِمَنْ وُفِّق للصِّيامِ والقِيامِ، هَنِيئًا للصَّائِمينَ هنيئًا للتَّائبينَ, هَنِيئاً لَنا بِقولِ نبيِّنا-صلى الله عليه وسلم-:«مَنْ صامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّمَ من ذَنبِّهِ». وقُلُوبُنا بينَ خَوفٍ وَرَجَاءٍ، وألسِنتُنا تَلْهَجُ بالدُّعاءِ أنْ يتقبَّلَ اللهُ منَّا, وإنَّما يتقبلُ اللهُ من المُتَقينَ.

أيُّها المؤمنونَ: يَمتَازُ دِينُنا أنَّهُ دَائِمُ الصِّلَةِ باللهِ تعالى, لا يَنفكُّ المُسلِمُ عن ربِّهِ بِمُجَرَّدِ ذَهَابِ شَعِيرةٍ أدَّاها، بل يَظَلُّ الإسلامُ مُلازماً لكَ في كلِّ أوقاتِكَ وأحوالِكَ، في بيتِكَ وسُوقِكَ وعمَلِكَ، في شعبانَ ورمضانَ وشوالَ وكلِّ زمانٍ ومَكَانٍ. (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام: 162].

بينما لو تأمَّلتَ دِياناتِ أخرى لوجدتَ أنَّ شَعَائِرَهم مُجرَّدَ طُقُوسٍ جَوفاءَ! لا تَصِلُ العَبْدَ بِخَالِقِهِ، ولا تُوجِدُ لهُ سَعَادَةً ولا طُمأنِينَةً! من هنا انتَقَلَت عبودِيَّتُنا لله تعالى مِنَ التَّكلِيفِ إلى التَّشريفِ! (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 98- 99].

ولمَّا قالَ اللهُ تعالى: (وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة: 185]، قالَ العلماءُ: أي تَشكرونَ اللهَ عندَ إتمامِ الصِّيامِ وتَوفِيقِهِ وَتَسهِيلِهِ, وعلى ما منَّ به علينا من مَواسمِ الطاعات، فمن شكَرَه زادَه كما قالَ رَبُّنا: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم: 7].

قال المفسِّرون: أي أزِيدُكم مِن طَاعَتِهِ. فالصلواتُ المفْرُوضَةُ مَثَلاً هي صِلةٌ بينَ العبدِ وربِّهِ كُلَّ يومٍ ولَيلَةٍ، هي خَمْسٌ في الفِعلِ وخمسونَ في الثَّوابِ والأجرِ! وقُلْ مثلَ ذَلِكَ في سَائِرِ العِبَادَاتِ! بل بفضلِ اللهِ لم يَقِفِ الارتباطُ بالخالقِ بالفَرَائِضِ فحسبُ؛ حتى النَّوافِلَ واللهُ في الحديثِ القدسيِّ يقولُ: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ».

فأيُّ ارتباطٍ أعظمُ من ذلكَ بينَ مَخلُوقٍ ضَعيفٍ وخالِقِهِ العظيمِ؟! فاللهُ تعالى يحفظُ عليك سَمْعَكَ وَبَصَرَكَ وَيَدَكَ وَرِجلَكَ عن الحرامِ ويُعطِيَكَ سُؤْلَكَ ويُعِيذك من الشَّيطانِ الرَّجيمِ!

أيُّها المسلمونَ: لقد شَرَعَ لنا رَبُّنا أَعمَالاً بَقِيَّةَ العَامِ تُمَاثِلُ الصِّيامَ والقِيامَ: «فَمَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ».

وَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».

فهذان الحديثانِ وغيرِهِما يَدُلاَّنِ على سَعَةِ فضلِ اللهِ -تعالى-، وأنَّ هناكَ أعمالاً لها من الخيرِ مِثْلَ ما لِصيامِ رمضانَ وقيامِهِ! مع الإيمانِ بفرضيَّتِهِ والتزامِهِ.

فكانت تلكَ الأعمالُ دافعاً على الجِدِّ والاستمرارِ في العملِ, ولهذا كانَ من تَوجِيهَاتِ نبيِّنا -صلى الله عليه وسلم- أنْ قال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ مِنْ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دُووِمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَلَّ وَكَانَ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَمِلُوا عَمَلًا أَثْبَتُوهُ».

حتى كَرِهَ أهلُ العلمِ أن ينقَطِعُ العبدُ عن العملِ الصَّالِحِ الذي اعتادهُ؛ استنباطاً من ذَلِكَ, ومن حديثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- حين قَالَ لهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :«يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ».

ولا شَكَّ أنَّ الدَّوامَ على العملِ الصَّالِحِ سِرٌّ من أَسرَارِ العُبُودِيَّةِ للهِ, وفيهِ عَدَمُ مِنَّةٍ بِالعمَلِ,وأنَّ المِنَّةَ للهِ تعالى أنْ وفَّقَكَ وشَرَّفكَ بِعِبَادَتِهِ!

فيا مَن صُمتم وأحسنتُم: لازِمُوا ما اعتَدُّتم عليهِ من الخيرِ في رَمَضَانُ ولا تَنْقَطِعُوا عنه، وَخُذُوا مِن العَمَل مَا تُطِيقُون واثبتوا عليه ولو كان قَليلاً؛ (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)[المطففين: 26].

فالقليلُ الدَّائِمُ يَنْمُو ويزكو، والكثيرُ الشَّاقُّ يَنْقَطِعُ ولا يَدُومُ, وفي الحديثِ أنَّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: «إنَّ الْمُنْبَتَّ لا أَرْضَاً قَطَعَ ولا ظَهْرَاً أَبْقَى». وَقَالَ قَتَادَةُ -رَحمَهُ اللهُ-: "من استطاعَ منكم ألاَّ يُبطِلَ عَمَلاً صَالِحَاً عَمِلَهُ بِعَمَلٍ سَيءٍ فَلْيفْعَلْ، ولا
[/color][/I][/CENTER][/SIZE]