(7)

مرت عدة أيام زارنا فيها الأمير عدة مرات
وكل مرة يجلب الربيع إلى مكتبنا البائس
وعرفت ما جاء به إلى هنا
كان الأمير حزينا
فقد نشبت الخلافات بينه وبين أميرته
وبدا أن الفراق واقع لا محالة
ولابد من بعض التسوية لممتلكاتهما المشتركة
والتى يعمل عليها الأستاذ كامل الآن


كان الأمير حزينا
ولحزنه تبكى السماء
وتموت الزهور
وتعوى الرياح
ويلملم الربيع ثوبه من فوق وجه الأرض


كان الأمير حزينا
لكنه نبيلا
كان يخفى حزنه فى كبرياء
ترى من تلك الأميرة الحمقاء
التى تتخلى عن أمير مثله


يقولون أنها حقا حسناء
يقولون عينيها بلون السماء
وشعرها خصلات حرير شقراء
يقولون جمالها نادر بين النساء


تبا لها من حمقاء
كيف لم تقدر النعمة التى وهبها الله لها
تمنيت أن أراها
من ملكت قلب الأمير
ومن ثم طعنته بقسوة
وقد كان


فقد جاءت فى أحد الأيام ورأيتها
كانت كالعاصفة
تتحرك بعصبية
تتحدث بغرور
تنظر باحتقار
وكأننا لا نستحق هذا الشرف
ورغم ذلك حبس كل الأوغاد فى المكتب أنفاسهم انبهارا
حقا كانت تمثال جميل يحوى روحا بشعة
بل أكثر قبحا من وجهى


كيف خدعت الأمير الجميل
كيف؟


جاء الأمير فى نفس اليوم
حزينا .. نبيلا
طال اجتماعهما عند الأستاذ كامل
وقد حشدنا جميعا آذاننا علنا نتعرف ما يحدث بالداخل


رأيت بعين الخيال
أميرى الجميل وهو يزود عن مملكة النور والجمال
بينما سيدة العواصف تسلط عليها الرياح والرعد والبرق
وتحاول انتزاعها من الأمير
لقد كانت الحرب
كنت أشجع الأمير وتمنيت أن أكون جواره لندافع عن الجمال معا
ونقهر الشر الذى يرتدى قناع الجمال الزائف
كانت الحرب فى أوجها حين أفقت على صوت حاد ينبعث من المكتب
انتفضت من مكانى ولا إراديا اتجهت نحو المكتب لأطمئن على الأمير


حين انفتح الباب عن العاصفة البشرية
كانت تتكلم بانفعال شديد وتتوعد الأمير بخراب مملكته
كادت تصطدم بى ووقفت فجأة تنظر لى بعينين يتطاير الشرر منهما حتى كادت تحرقنى قبل أن تدفعنى بقوة وهى تندفع إلى الخارج فى جنون
تحسست كتفى الذى تألم كثيرا
تلك المرأة لها قوة الثيران
وشراستها


- هل أنتِ بخير؟
عاد البلبل يغرد أغنيته الحزينة
وتعزف القيثارة فوق قطعة سحاب بعدما هدأت العاصفة
نظرت فوجدت الأمير
بنظرة نبيلة هادئة وقف يرمقنى والقيثارة تعزف
- أعتذر لكِ يا آنسة
(أتعتذر لى يا أمير .. من أكون أنا)
- هل أنتِ بخير؟
هززت رأسى فى صمت
كاد يتابع طريقه للخارج قبل أن يتوقف ويسألنى بتهذيب
- هل لى أن أطلب كوب من الماء من فضلكِ؟
لابد أننى وقفت كالبلهاء ثانية قبل أن أندفع كالسهم لأجلب له الماء
جرع بعضه فى تهذيب ورقة لم أرها من قبل كأنما يخشى أن يهشم الكوب
أرسلت نظرة حسد للكوب المحظوظ الذى لم يعتد تلك المعاملة الرقيقة قط
جذب المقعد الذى أمامى وجلس بهدوء


كادت الدموع تفر من عينى حزنا عليه ثم سألته
- هل أنت بخير يا أمير بك؟
رفع عينيه النبيلتين لى وقال
- من أمير؟
- أنت يا سيدى
ابتسم لترسل الشمس شعاعها على وجهى
- اسمى نبيل
(حقا لو لم تكن نبيل فمن يكون إذن)
- أنا هيام
نظر بدهشة مهذبة فهو لم يطلب التشرف بمعرفة اسمى
غالبت خجلى وقلت
- اسم مضحك أليس كذلك؟
- لم تقولين هذا؟ .. اسمكِ جميل
- نعم اسم جميل لفتاة .......
وأطرقت برأسى إلى الأرض أفكر بسخافة موقفى
هنا تفحصنى باهتمام وجعلتنى نظرته أرتجف انفعالا
ثم ابتسم بهدوء وقال
- اسم جميل لروح جميلة
أسعدنى انه لم يجاملنى كثيرا
- ما الذى ... اقصد كيف تعرف أن .....
- أعرف الروح الجميلة حين أقابلها ربما هو إلهام الفنان
- هل أنت فنان أيضا؟
ابتسم برقة وأضاف
- نعم أهوى رسم الطبيعة، إنها تجعلكِ تندمجين بها وتحلق بكِ بعيدا عن البشر بأحقادهم وأطماعهم
كانت عينيه تلمع بالحزن وهى تحلق مع كلماته
لم يخدعنى حدسى هو ذاك الأمير فى مملكته النورانية
- معك حق يا أمير بك
انسابت ضحكة هادئة منه وهو يقول
- ما زلتِ مصرة على أننى أمير
- نعم
نظر لى فى صمت قبل أن يقول وعينيه تسافر بعيدا
- نعم أمير توشك مملكته على الانهيار
أطلق تنهيدة صغيرة قبل أن يقوم من مكانه ويقول بابتسامة
- شكرا لكِ يا آنسة هيام لقد أراحنى التحدث إليكِ .. بعد إذنكِ


ورحل الأمير .. ورحل الربيع .. ورحل النوم من عينى
وامتدت ليالى السهاد طويلا
ولحظات الغفوة هى بعض أحلام مستحيلة
أى جحيم هذا
أى جحيم