ساعة الصفر

فتح عينيه في السرداب ببطء .. كل ما يتذكره أن قنبلة نووية نظيفة كان سيطلقها مجنون العصر.. كان المسئول عن الإطلاق ، ولعله أصيب بلوثة في عقله ومرض طارئ غريب .. تصور أنه الإله الأعظم كما كان يقول قبل لحظة الإطلاق :
- اسمعوا! هذه نهايتكم ، ستموتون جميعكم وسأعيش أنا مع حيواناتكم وطيوركم وهوامكم .. سأحتل الكرة الأرضية .. سأكون آدم هذا الزمان
لكنه عاد فقهقه قهقهة طويلة أردفها بقوله في هدوء ونشوة :
- أنا أمزح فقط .. تلك كانت كذبة أبريل أنسيتم؟ ثم هل يعقل هذا؟ اطمئنوا ، فحياتكم هي حياتي .
وعندما اطمأن المشاهدون لهذه المزحة ، عاد اللعين وأطلق الرؤوس النووية نحو النقاط الأساسية للأرض . لم يكن الناس يتأهبون لهذه المصيبة العظمى .. وأغلبهم لم يكن يتابع القناة التي بثت الحدث ، وإلا لسارع كل واحد إلى وضع القناع ..
كان أحمد وسلمى يشاهدان كلام المعتوه .. ولخوفهما الشديد لسبب لا يعرفانه ،هرعا إلى السرداب ودخلا فيه بعد أن أغلقا الباب بإحكام ، وسدا كل الشقوق والمنافذ الصغيرة بمادة لاصقة ، ثم تناولا منوﱢما قويا .

بعد أن نفض عن رأسه بعض الغبار .. أجرى اتصالات بلا جدوى .. انتبه إلى سلمى وهي مستلقية في الركن ، حركها برفق ، فتحت عينيها في ذهول .. حملقت في كل الجهات .. وضعت يديها على صدرها تتحسس جسمها النحيف ، أدرك أحمد مرادها فقال لها في رباطة جأش :
- نعم ، نحن حيّان يا سلمى .. لا تخافي ، لقد فعلها المخبول . بعدما استيقظت من نومي ، اتصلت بالهاتف بكل الأهل ، لم يجبني أحد مع أن هواتفهم المرئية كانت ترن بلا فائدة . لا شك أن الرياح كانت تحمل الموت لكل أنف يشم ولكل فم يسحب الهواء للرئتين..
ثبـّـتت نظراتها عليه وهي لا تصدق ما يقول ، لقد اختبآ لمجرد الخوف ، فهل فعلها حقا ؟؟ حمدت الله في خاطرها .. تذكرت الأحباب والأصدقاء ، بدأت تبكي بشدة ، اقترب أحمد منها ، ضم رأسها إلى صدره .. ذرف دموعا ساخنة في صمت وشفتاه تضطربان كبركان على وشك الانفلات ..
أعياهما البكاء والتأمل ، ومع أن مفعول القنبلة الكونية لا يتعدى مفعولها يوما واحدا ، فقد لبثا في مخبئهما يومين كاملين بلا طعام أو شراب ، بعدها قال لعـروسه في شيء مـــــــــــن العصبية :
- اسمعي ! سألقي نظرة الآن على القرى والمدن المجاورة ، يجب أن أعثر على أحياء .. لن نعيش وحدنا هنا ، سأبدأ بالأهل أولا.. ومن غير انتظار أي جواب فتح الفوهة المغلقة .. تردد قليلا وهو يتشمم الهواء ثم خرج بعد أن لبس بذلته الواقية من أشعة الشمس المضرة.. ، ركب البراق .. تلك السيارة الطائرة التي تسير بسرعة فائـقة قريـبا مــن سطح الأرض . في الخارج لا أحياء إلا الدواب والطيور والهوام .. الناس أجسام هامدة ، عبثا كان يصيح في كل ركن .. ينادي الأسماء .. لا مجيب ! أدرك أنهما الوحيدان الباقيان في هذه المدينة الصغيرة ، من حسن الحظ أن مفعول القنبلة ينتهي بسرعة ويقتل بسرعة أيضا وبشكل نظيف إذ لا تقتل إلا الإنسان .. هكذا صُـممت ! بعد ساعات ، قفل راجعا وهو يهذي : يا للمصيبة ..! يا للمصيبة ..!

في المنزل ألقى بجسده المتعب على الأريكة ، من غير سؤال من سلمى التي كانت قد خرجت من السرداب ، أجاب بالنفي .
في اليوم الرابع لم يعد يشك أنهما وحيدان الآن .. لقد شاهدا الجثث هنا وهناك .. في الشوارع والأزقة .. على الشرفات ..على السطوح .. داخل سيارات البراق وغيرها .. في الحقول القليلة.. الكل ساكن ماعدا أجزاء ثيابهم التي تحركها الرياح ..
انتصب أمامها وقال في حزم :
-يجب أن نحمل ما يكفي من الزاد ونعود إلى السرداب .
صرخت بلا شعور :
- إلى السرداب مرة أخرى ؟
أجاب في برودة دم :
- نعم .. الجثث ستتعفن ولن نستطيع وحدنا دفنها ، ما باليد حيلة يا أختاه .

في السرداب قضّـيا أياما عصيبة .. عانيا الصمت المطبق إلا من الآهات والتأمل في المجهول .. كانت تصل أذنيهما نباح كلاب ضالة.. رفرفات طيور كبيرة .. صليل أبواب وهبوب رياح عاتية ... سلمى لم تكن تتمالك نفسها أحيانا ، كانت تذرف دموعا حارة ، أحمد رأسه بين ركبتيه يتأمل .. قال في نفسه : لعل إنسان اليوم يستحق هذه النهاية المفاجئة ! لقد أساء كثيرا إلى أمه الأرض حتى صار لا يخرج في ساعات اشتداد الحرارة إلا لابسا السترة الواقية من أشعة الشمس المضرة بسبب ثقوب الأوزون الكبيرة .. أمراض جلدية خطيرة للغاية .. سرطانات .. عمر الإنسان صار لا يتجاوز السبعين على الأكثر .. قامته أضحت قصيرة شيئا ما .. جفت القلوب من المشاعر والحنان .. بداية تعود الإنسان على ابتلاع أنواع من الأقراص مكان اللحوم والخضر والخبز .. الاحتباس الحراري سيد الموقف بلا منازع .. الماء قليل وملوث بشكل خطير .. ارتفاع مستوى ماء البحر أغرق مئات المدن وابتلع آلاف الجزر .. كلام عن بدء اتصال مع كائنات فضائية تبعد عنا عشرات الآلاف من السنوات الضوئية .. عدد الرجال صار لا يتجاوز ثلث النساء ، انقلبت الآية منذ عقود وصار الرجال يمارسون الدعارة في أحياء خاصة .. حرب الفيروسات البيولوجية باتت تقض مضاجع الأبرياء .. كان أحدهم يدخل مكانا عاما ، يفتح قارورة صغيرة في خفاء ، يحبس أنفاسه قليلا قبل أن يرميها تحت رجليه ويخرج .. وفي زاوية ما يقف يتفرج على المشهد المأساوي : أشخاص يصيحون وهم لا يقوون على التنفس والحركة .. بعضهم يصل الباب ثم يتساقط جثة هامدة ، الذين في الخارج يبتعدون عن الساحة الملوثة وهم يسدون أنوفهم .. صارت الحروب مدمرة حتى لم تعد هناك دولة قوية وأخرى ضعيفة .. حتى اليهود الملاعين غادروا فلسطين خوفا من التدمير المتبادل ، اللوبي الصهيوني أعلن ذات يوم أن أمريكا دولة صهيونية .. قمعوا المظاهرات وفرضوا الأمر الواقع.. الإيمان أضحى ضعيفا لدرجة أن الصيام لم يعد كما كان .. فالمطاعم في كل الدول الإسلامية مفتوحة نهارا يأكل من شاء ويصوم من شاء ..المساجد صارت مساحاتها صغيرة لقلة المصلين ، ولا تفتح في الغالب إلا يوم الجمعة فقط .. عاد الإسلام غريبا فطوبى للغرباء .. زمان وأي زمان !!
رفع حاجبيه مستغربا .. التفت إلى سلمى .. ضحك قليلا قبل أن يقول :
من الآن فصاعدا سنعيش في البادية.
- ماذا تقول ؟ نعيش في البادية ؟
صمت قليلا وعقب :
وهل عندك حل آخر ؟ ما عسانا سنفعل في هذه المدينة ووسط هذه العمارات وهذه الأكوام من السيارات و الآليات والمنتجات ؟ ألا ترين أن كل شيء هامد الآن ؟ التلفاز .. الراديو ..حتى الدواء والمأكولات ستنتهي صلاحيتهما بعد حين ..
التفت إليها، غرس عينيه في عينيها وأضاف :
اسمعي ! حياتنا ستكون في فلاحة الأرض وتربية المواشي وزراعة الحبوب والخضر .. حتى الملابس يجب أن نصنعها بأيدينا ، يوما ما ستبلى تلك الجاهزة المكدسة هناك .. ثم وقف في عصبية وخرج ، بعد برهة عاد بأكياس كان قد جمعها من أحد البنوك ، أفرغها أمامها ... كانت الأوراق المالية التي من فئة ألف درهم لا تعد ولا تحصى ، أشار إليها ساخرا :
- انظري إلى هذه اللعينة ! البارحة كانت المحرك الأساسي لدواليب الحياة والآن لا تصلح حتى ورقا للمرحاض!! ؟
كانت غارقة في أفكار متضاربة .. أذهلها الواقع الجديد .. انتشلها من صمتها وهو يربّـت على كتفها برفق :
- اسمعي ! انسي المدينة وأضواءها .. واستعدي للعيش مع الأرض ،التفت إلى بطنها وأضاف مبتسما: وهات ما عندك من بطون ..سنحتاج إلى سواعد كثيرة . ثم رفع رأسه إلى السماء داعيا: اللهم جنبْ ذريتي ويلات الحروب وسموم التدخين والخمور .. اللهم اجعل زمانهم خيرا من زمان أسلافهم .. آمين والحمد لله رب العالمين ..

زايد التجاني / بومية/ ميدلت / المغرب