- الإهدائات >> ابوفهد الي : كل عام وانتم الي الله اقرب وعن النار ابعد شهركم مبارك تقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال والله لكم وحشه ومن القلب دعوة صادقة أن يحفظكم ويسعدكم اينما كنتم ابوفهد الي : ابشركم انه سيتم الإبقاء على الدرر مفتوحة ولن تغلق إن شاء الله اتمنى تواجد من يستطيع التواجد وطرح مواضيع ولو للقرأة دون مشاركات مثل خواطر او معلومات عامة او تحقيقات وتقارير إعلامية الجوري الي I miss you all : اتمنى من الله ان يكون جميع في افضل حال وفي إتم صحه وعافية ابوفهد الي الجوري : تم ارسال كلمة السر اليك ابوفهد الي نبض العلم : تم ارسال كلمة السر لك ابوفهد الي : تم ارسال كلمات سر جديدة لكما امل ان اراكم هنا ابوفهد الي الأحبة : *نجـ سهيل ـم*, ألنشمي, ملك العالم, أحمد السعيد, BackShadow, الأصيـــــــــل, الدعم الفني*, الوفيه, القلب الدافىء, الكونكورد, ايفا مون, حياتي ألم, جنان نور .... ربي يسعدكم بالدارين كما اسعدتمني بتواجدكم واملى بالله أن يحضر البقية ابوفهد الي : من يريد التواصل معى شخصيا يرسل رسالة على ايميل الدرر سوف تصلني ابوفهد الي : اهلا بكم من جديد في واحتكم الغالية اتمنى زيارة الجميع للواحة ومن يريد شياء منها يحمله لديه لانها ستغلق بعد عام كما هو في الإعلان اتمنى ان الجميع بخير ملك العالم الي : السلام عليكم اسعد الله جميع اوقاتكم بكل خير ..
إضافه إهداء  

آخـــر الــمــواضــيــع

صفحة 3 من 5 الأولىالأولى 12345 الأخيرةالأخيرة
النتائج 31 إلى 45 من 66

الموضوع: ---((( رجــــــــال حــــــول الرســــــــول )))---

  1. #31
    تاريخ التسجيل : Dec 2006
    رقم العضوية : 20624



    ---((( عمير بن سعد )))---



    نسيج وحده



    أتذكرون سعيد بن عامر..؟؟

    ذلك الزاهد العابد الأوّاب الذي حمله أمير المؤمنين عمر على قبول امارة الشام وولايتها..

    لقد تحدثنا عنه في كتابنا هذا, ورأينا من زهده وترفعه, ومن ورعه العجب كله..

    وها نحن أولاء, نلتقي على هذه الصفات بأخ له, بل توأم, في الورع وفي الزهد, وفي الترفع.. وفي عظمة النفس التي تجل عن النظير..!!

    انه عمير بن سعد..

    كان المسلمون يلقبونه نسيج وحده!!

    وناهيك برجل يجمع على تلقيبه بهذا اللقب أصحاب رسول الله, وبما معهم من فضل وفهم ونور..!!



    **



    أبوه سعد القارئ رضي الله عنه.. شهد بدرا مع رسول الله والمشاهد بعدها.. وظلّ أمينا على العهد حتى لقي الله شهيدا في موقعة القادسية.

    ولقد اصطحب ابنه الى الرسول, فبايع النبي وأسلم..

    ومنذ أسلم عمير وهو عابد مقيم في محراب الله.

    يهرب من الأضواء, ويفيئ الى سكينة الظلال.

    هيهات أن تعثر عليه في الصفوف الأولى, الا أن تكون صلاة, فهو يرابط في صفها الأول ليأخذ ثواب السابقين.. والا أن يكون جهاد, فهو يهرول الى الصفوف الأولى, راجيا أن يكون من المستشهدين..!

    وفيما عدا هذا, فهو هناك عاكف على نفسه ينمي برّها, وخيرها وصلاحها وتقاها..!!

    متبتل, ينشد أوبه..!!

    أوّاب, يبكي ذنبه..!!

    مسافر الى الله في كل ظعن, وفي كل مقام...



    **



    ولقد جعل الله له في قلوب الأصحاب ودّا, فكان قرّة أعينهم ومهوى أفئدتهم..

    ذلك أن قوة ايمانه, وصفاء نفسه, وهدوء سمته, وعبير خصاله, واشراق طلعته, كان يجعله فرحة وبهجة لكل من يجالسه, أو يراه.

    ولم يكن يؤثر على دينه أحدا, ولا شيئا.

    سمع يوما جلاس بن سويد بن الصامت, وكان قريبا له.. سمعه يوما وهو في دارهم يقول:" لئن كان الرجل صادقا, لنحن شرّ من الحمر"..!!

    وكان يعني بالرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وكان جلاس من الذين دخلوا الاسلام رهبا.

    سمع عمير بن سعد هذه العبارات ففجرت في نفسه الوديعة الهادئة الغيظ والحيرة..

    الغيظ, لأن واحدا يزعم أنه من المسلمين يتناول الرسول بهذه اللهجة الرديئة..

    والحيرة, لأن خواطره دارت سريعا على مسؤوليته تجاه هذا الذي سمع وأنكر..

    ينقل ما سمع الى رسول الله؟؟

    كيف, والمجالس بالأمانة..؟؟

    أيسكت ويطوي صدره ما سمع؟

    كيف؟؟

    وأين ولاؤه ووفاؤه للرسول الذي هداهم الله به من ضلالة, وأخرجهم من ظلمة..؟

    لكن حيرته لم تطل, فصدق النفس يجد دائما لصاحبه مخرجا..

    وعلى الفور تصرّف عمير كرجل قوي, وكمؤمن تقي..

    فوجه حديثه الى جلاس بن سويد..

    " والله يا جلاس, انك لمن أحب الناس الي, وأحسنهم عندي يدا, وأعزهم عليّ أن يصيبه شيء يكرهه..

    ولقد قلت الآن مقالة لو أذعتها عنك لآذتك.. وان صمتّ عليها, ليهلكن ديني, وان حق الدين لأولى بالوفاء, واني مبلغ رسول الله ما قلت"..!

    وأرضى عمير ضميره الورع تماما..

    فهو أولا أدّى أمانة المجلس حقها, وارتفع بنفسه الكبيرة عن ان يقوم بدور المتسمّع الواشي..

    وهو ثانيا أدى لدينه حقه, فكشف عن نفاق مريب..

    وهو ثالثا أعطى جلاس فرصة للرجوع عن خطئه واستغفار الله منه حين صارحه بأنه سيبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم, ولو أنه فعل آنئذ, لاستراح ضمير عمير ولم تعد به حاجة لابلاغ الرسول عليه السلام..

    بيد أن جلاسا أخذته العزة بالاثم, ولم تتحرك شفتاه بكلمة أسف أو اعتذار, وغادرهم عمير وهو يقول:

    " لأبلغنّ رسول الله قبل أن ينزل وحي يشركني في اثمك"...

    وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلب جلاس فأنكر أنه قال, بل حلف بالله كاذبا..!!

    لكن آية القرآن جاءت تفصل بين الحق والباطل:

    ( يحلفون بالله ما قالوا.. ولقد قالوا كلمة الكفر, وكفروا بعد اسلامهم, وهمّوا بما لم ينالوا.. وما نقموا الا أن أغناهم الله ورسوله من فضله.. فان يتوبوا يك خيرا لهم, وان يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة,وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير)..



    واضطر جلاس أن يعترف بمقاله, وأن يعتذر عن خطيئته, لا سيما حين رأى الآية الكريمة التي تقرر ادانته, تعده في نفس اللحظة برحمة الله ان تاب هو وأقلع:

    " فان يتوبوا, يك خيرا لهم"..

    وكان تصرّف عمير هذا خيرا وبركة على جلاس فقد تاب وحسن اسلامه..

    وأخذ النبي بأذن عمير وقال له وهو يغمره بسناه:

    " يا غلام..

    وفت اذنك..

    وصدّقك ربك"..!!





    **



    لقد سعدت بلقاء عمير لأول مرة, وأنا أكتب كتابي بين يدي عمر.

    وبهرني, كما لم يبهرني شيء, نبأه مع أمير المؤمنين.. هذا النبأ الذي سأرويه الآن لكم, لتشهدوا من خلاله العظمة في أبهى مشارقها..



    **



    تعلمون أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه كان يختار ولاته وكأنه يختار قدره..!!

    كان يختارهم من الزاهدين الورعين, والأمناء الصادقين.. الذين يهربون من الامارة والولاية, ولا يقبلونها الا حين يكرههم عليها أمير المؤمنين..

    وكان برغم بصيرته النافذة وخبرته المحيطة يستأني طويلا, ويدقق كثيرا في اختيار ولاته ومعاونيه..

    وكان لا يفتأ يردد عبارته المأثورة:

    " أريد رجلا اذا كان في القوم, وليس أميرا عليهم بدا وكأنه أميرهم.. واذا كان فيهم وهو عليهم امير, بدا وكأنه واحد منهم..!!

    أريد واليا, لا يميز نفسه على الناس في ملبس, ولا في مطعم, ولا في مسكن..

    يقيم فيهم الصلاة.. ويقسم بينهم بالحق.. ويحكم فيهم بالعدل.. ولا يغلق بابه دون حوائجهم"..

    وفي ضوء هذه المعايير الصارمة, اختار ذات يوم عمير بن سعد واليا على حمص..

    وحاول عمير أن يخلص منها وينجو, ولكن أمير المؤمنين ألزمه بها الزاما, وفرضها عليه فرضا..

    واستخار الله ,ومضى الى واجبه وعمله..

    وفي حمص مضى عليه عام كامل, لم يصل الى المدينة منه خراج..

    بل ولم يبلغ أمير المؤمنين رضي الله عنه منه كتاب..

    ونادى أمير المؤمنين كاتبه وقال له:

    " اكتب الى عمير ليأتي الينا"..

    وهنا أستأذنكم في أن أنقل صورة اللقاء بين عمر وعمير, كما هي في كتابي بين يدي عمر.

    " ذات يوم شهدت شوارع المدينة رجلا أشعث أغبر, تغشاه وعثاء السفر, يكاد يقتلع خطاه من الأرض اقتلاعا, من طول ما لاقى من عناء, وما بذل من جهد..

    على كتفه اليمنى جراب وقصعة..

    وعلى كتفه اليسرى قربة صغيرة فيها ماء..!

    وانه ليتوكأ على عصا, لا يؤدها حمله الضامر الوهنان..!!

    ودلف الى مجلس عمر فى خطى وئيدة..

    السلام عليك يا امير المؤمنين..

    ويرد عمر السلام, ثم يسأله, وقد آلمه ما رآه عليه من جهد واعياء:

    ما شأنك يا عمير..؟؟

    شأني ما ترى.. ألست تراني صحيح البدن, طاهر الدم, معي الدنيا أجرّها بقرنيها..؟؟!!

    قال عمر: وما معك..؟

    قال عمير: معي جرابي أحمل فيه زادي..

    وقصعتي آكل فيها.. واداوتي أحمل فيها وضوئي وشرابي.. وعصاي أتوكأ عليها, وأجاهد بها عدوّا ان عرض.. فوالله ما الدنيا الا تبع لمتاعي..!!

    قال عمر: أجئت ماشيا..

    عمير: نعم..

    عمر: أولم تجد من يعطيك دابة تركبها..؟

    عمير: انهم لم يفعلوا.. واني لم أسألهم..

    عمر: فماذا عملت فيما عهدنا اليك به...؟

    عمير: أتيت البلد الذي يعثتني اليه, فجمعت صلحاء أهله, ووليتهم جباية فيئهم وأموالهم, حتى اذا جمعوها وضعوها في مواضعها.. ولو بقي لك منها شيء لأتيتك به..!!

    عمر: فما جئتنا بشيء..؟

    عمير: لا..

    فصاح عمر وهو منبهر سعيد:

    جدّدوا لعمير عهدا..

    وأجابه عمير في استغناء عظيم:

    تلك أيام قد خلت.. لا عملت لك, ولا لأحد بعدك"..!!

    هذه لصورة ليست سيناريو نرسمه, وليست حوارا نبتدعه.. انما هي واقعة تاريخية, شهدتها ذات يوم أرض المدينة عاصمة الاسلام في أيام خلده وعظمته.

    فأي طراز من الرجال كان أولئك الأفذاذ الشاهقون..؟!!



    **



    وكان عمر رضي الله عنه يتمنى ويقول:

    " وددت لو أن لي رجالا مثل عمير أستعين بهم على أعمال المسلمين"..

    ذلك أن عميرا الذي وصفه أصحابه بحق بأنه نسيج وحده كان قد تفوّق على كل ضعف انساني يسببه وجودنا المادي, وحياتنا الشائكة..

    ويوم كتب على هذا القدّيس العظيم أن يجتاز تجربة الولاية والحكم, لم يزدد ورعه بها الا مضاء ونماء وتألقا..

    ولقد رسم وهو أمير على حمص واجبات الحاكم المسلم في كلمات طالما كان يصدح بها في حشود المسلمين من فوق المنبر.

    وها هي ذي:

    " ألا ان الاسلام حائط منيع, وباب وثيق

    فحائط الاسلام العدل.. وبابه الحق..

    فاذا نقض الحائط, وحطّم الباب, استفتح الاسلام.

    ولا يزال الاسلام منيعا ما اشتدّ السلطان

    وليست شدّة السلطان قتلا بالسيف, ولا ضربا بالسوط..

    ولكن قضاء بالحق, وأخذا بالعدل"..!!



    والآن نحن نودّع عميرا.. ونجييه في اجلال وخشوع, تعالوا نحني رؤوسنا وجباهنا:

    لخير المعلمين: محمد..

    لامام المتقين: محمد..

    لرحمة الله المهداة الى الناس في قيظ الحياة

    عليه من الله صلاته. وسلامه..

    وتحياته وبركاته..

    وسلام على آله الآطهار..

    وسلام على أصحابه الأبرار...
    [align=center]عند زئير الأسد في الصباح سمَّونا بأسمائنـا
    وفي ليلة مولد الذئب خرجنا إلى الدنيا
    وفي أعشاش النسور أرضعتنا أمهاتنا
    ومنذ طفولتنا علَّمنا آباؤنا فنون الفروسية
    والتنقل بخفة الطير في جبال بلادنا الوعرة
    ---((( لا إله إلا الله )))---
    جبالنا المكسورة بحجر الصوان عندما يُدوي في أرجائها رصاص الحرب
    وبلادنا عندما تتفجر بالبارود
    من المحال أن نُدفن فيها إلا بشرف وكرامة

    ---(( والموت لا بد منه ،، ولن يكون إلا مرة واحدة ،، فإن جعلتموها في سبيل الله كان ذلك ربح الدنيا وثواب الآخرة )))---
    [/align]

  2. #32
    تاريخ التسجيل : Dec 2006
    رقم العضوية : 20624



    ---((( زيد بن ثابت )))---

    جامع القرآن



    اذا حملت المصحف بيمينك, واستقبلته بوجهك, ومضيت تتأنق في روضاته اليانعات, سورة سورة, وآية آية, فاعلم أن من بين الذين يدينونك بالشكر والعرفان على هذا الصنع العظيم, رجل كبير اسمه: زيد بن ثابت...!!

    وان وقائع جمع القرآن في مصحف, لا تذكر الا ويذكر معها هذا الصحابي الجليل..

    وحين تنثر زهور التكريم على ذكرى المباركين الذين يرجع اليهم فضل جمع القرآن وترتيبه وحفظه, فان حظ زيد بن ثابت من تلك الزهور, لحظ عظيم..



    **



    هو أنصاري من المدينة..

    وكان سنّه يوم قدمها النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرا, احدى عشرة سنة, وأسلم الصبي الصغير مع المسلمين من أهله, وبورك بدعوة من الرسول له..

    وصحبه آباؤه معهم الى غزوة بدر, لكن رسول الله ردّه لصغر سنه وحجمه, وفي غزوة أحد ذهب مع جماعة من اترابه الى الرسول يحملون اليه ضراعتهم كي يقبلهم في أي مكان من صفوف المجاهدين..

    وكان أهلوهم أكثر ضراعة والحاحا ورجاء..

    ألقى الرسول على الفرسان الصغار نظرة شاكرة, وبدا كأنه سيعتذر عن تجنيدهم في هذه الغزوة أيضا..

    لكن أحدهم وهو رافع بن خديج, تقدم بين يدي رسول الله, يحمل حربة, ويحركها بيمينه حركات بارعة,وقال للرسول عليه الصلاة والسلام:

    " اني كما ترى رام, أجيد الرمي فأذن لي"..

    وحيا الرسول هذه البطولة الناشئة, النضرة, بابتسامة راضية, ثم أذن له..

    وانتفضت عروق أترابه..

    وتقدم ثانيهم وهو سمرة بن جندب, وراح يلوّح في أدب بذراعيه المفتولين, وقال بعض اهله للرسول:

    " ان سمرة يصرع رافعا"..

    وحيّاه الرسول بابتسامته الحانية, وأذن له..



    كانت سن كل من رافع وسمرة قد بلغت الخامسة عشرة, الى جانب نموهما الجسماني القوي..

    وبقي من الأتراب ستة أشبال, منهم زيد بن ثابت, وعبدالله بن عمر..

    ولقد راحوا يبذلون جهدهم وضراعتهم بالرجاء تارة, وبالدمع تارة, وباستعراض عضلاتهم تارة..

    لكن أعمارهم كانت باكرة, وأجسامهم غضة, فوعدهم الرسول بالغزوة المقبلة..

    بدأ زيد مع اخوانه دوره كمقاتل في سبيل الله بدءا من غزوة الخندق, سنة خمس من الهجرة.



    كانت شخصيته المسلمة المؤمنة تنمو نموّا سريعا وباهرا, فهو لم يبرع كمجاهد فحسب, بل كمثقف متنوع المزايا أيضا, فهو يتابع القرآن حفظا, ويكتب الوحي لرسوله, ويتفوق في العلم والحكمة, وحين يبدأ رسول الله في ابلاغ دعوته للعالم الخارجي كله, وارسال كتبه لملوك الأرض وقياصرتها, يأمر زيدا أن يتعلم بعض لغاتهم فيتعلمها في وقت وجيز..

    وهكذا تألقت شخصية زيد بن ثابت وتبوأ في المجتمع مكانا عليّا, وصار موضع احترام المسلمين وتوقيرهم..

    يقول الشعبي:

    " ذهب زيد بن ثابت ليركب, فأمسك ابن عباس بالرّكاب.

    فقال له زيد: تنحّ يا ابن عم رسول الله.. فأجابه ابن عباس: لا, هكذا نصنع بعلمائنا"..

    ويقول قبيصة:

    " كان زيدا رأسا بالمدينة في القضاء, والفتوى والقراءة, والفرائض"..

    ويقول ثابت بن عبيد:

    " ما رأيت رجلا أفكه في بيته, ولا أوقر في مجلسه من زيد".

    ويقول ابن عباس:

    " لقد علم .. من أصحاب محمد أن زيد بن ثابت كان من الراسخين في العلم"..

    ان هذه النعوت التي يرددها عنه أصحابه لتزيدنا معرفة بالرجل الذي تدّخر له المقادير شرف مهمة من أنبل المهام في تاريخ الاسلام كله..

    مهمة جمع القرآن..



    **



    منذ بدأ الوحي يأخذ طريقه الى رسول الله ليكون من المنذرين, مستهلا موكب القرآن والدعوة بهذه الآيات الرائعة..

    ( اقرأ باسم ربك الذي خلق, خلق الانسان من علق, اقرأ وربك الأكرم, الذي علم بالقلم, علم الانسان ما لم يعلم)..

    منذ تلك البداية, والوحي يصاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام, ويخف اليه كلما ولّى وجهه شطر الله راجيا نوره وهداه..

    وخلال سنوات الرسالة كلها, حيث يفرغ النبي من غزوة ليبدأ بأخرى, وحيث يحبط مكيدة وحربا, ليواجه خصومة بأخرى, وأخرى. وحيث يبني عالما جديدا بكل ما تحمله من الجدّة من معنى..



    كان الوحي يتنزل, والرسول يتلو, ويبلّغ, وكان هناك ثلة مباركة تحرّك حرصها على القرآن من أول يوم, فراح بعضهم يحفظ منه ما استطاع, وراح البعض الآخر ممن يجيدون الكتابة, يحتفظون بالآيات مسطورة.

    وخلال احدى وعشرين سنة تقريبا, نزل القرآن خلالها آية آية, أو آيات, تلو آيات, ملبيا مناسبات النزول وأسبابها, كان أولئك الحفظة, والمسجلون, يوالون عملهم في توفيق من الله كبير..

    ولم يجيء القرآن مرة واحدة وجملة واحدة, لأنه ليس كتابا مؤلفا, ولا موضوعا.

    انما هو دليل أمة جديدة تبني على الطبيعة, لبنة لبنة, ويوما يوما, تنهض عقيدتها, ويتشكل قلبها, وفكرها, وارادتها وفق مشيئة الهية, لا تفرض نفسها من عل, وانما تقود التجربة البشرية لهذه الأمة في طريق الاقتناع الكامل بهذه المشيئة..

    ومن ثمّ, كان لا بد للقرآن أن يجيء منجّما, ومجزءا, ليتابع التجربة في سيرها النامي, ومواقفها المتجددة. وأزماتها المتصديّة.

    توافر الحفاظ, والكتبة, كما ذكرنا من قبل, على حفظ القرآن وتسجيله,وكان على رأسهم علي ابن ابي طالب, وأبيّ بن كعب, وعبدالله ابن مسعود, وعبدالله بن عباس, وصاحب الشخصية الجليلة التي نتحدث عنها الآن زيد بن ثابت رضي الله عنهم أجمعين..



    **



    وبعد أن تمّ نزولا, وخلال الفترة الأخيرة من فترات تنزيله, كان الرسول يقرؤه على المسلمين.. مرتبا سوره وآياته.

    وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام شغل المسلمون من فورهم بحروب الردّة..

    وفي معركة اليمامة.. التي تحدثنا عنها من قبل خلال حديثنا عن خالد بن الوليد وعن زيد بن الخطاب كان عدد الشهدا من قرّاء القرآن وحفظته كبيرا.. فما كادت نار الردّة تخبو وتنطفئ حتى فزع عمر الى الخليفة أبي بكر رضي الله عنهما راغبا اليه في الحاح أن يسارعوا الى جمع القرآن قبلما يدرك الموت والشهادة بقية القرّاء والحفاظ.

    واستخار الخليفة ربه.. وشاور صحبه.. ثم دعا زيد بن ثابت وقال له:

    " انك شاب عاقل لا نتهمك".

    وأمره أن يبدأ بجمع القرآن الكريم, مستعينا بذوي الخبرة في هذا الموضوع..

    ونهض زيد بالعمل الذي توقف عليه مصير الاسلام كله كدين..!

    وأبلى بلاء عظيما في انجاز أشق المهام وأعظمها, فمضى يجمع الآيات والسور من صدور الحفاظ, ومن مواطنها المكتوبة, ويقابل, ويعارض, ويتحرّى, حتى جمع القرآن مرتبا ومنسقا..

    ولقد زكّى عمله اجماع الصحابة رضي الله عنهم الذين عاشوا يسمعونه من رسولهم صلى الله عليه وسلم خلال سنوات الرسالة جميعها, لا سيّما العلماء منهم والحفاظ والكتبة..

    وقال زيد وهو يصوّر الصعوبة الكبرى التي شكلتها قداسة المهمة وجلالها..

    " والله لو كلفوني نقل جبل من مكانه, لكان أهون عليّ مما أمروني به من جمع القرآن"..!!

    أجل..

    فلأن يحمل زيد فوق كاهله جبلا, أو جبالا, أرضى لنفسه من أن يخطئ أدنى خطأ, في نقل آية أو اتمام سورة..

    كل هول يصمد له ضميره ودينه.. الا خطأ كهذا مهما يكن ضعيفا وغير مقصود..

    ولكن توفيق الله كان معه, كان معه كذلك وعده القائل:

    ( انا نحن نزلنا الذكر وان له لحافظون)..

    فنجح في مهمته, وأنجز على خير وجه مسؤوليته وواجبه.



    **



    كانت هذه هي المرحلة الأولى في جمع القرآن..

    بيد أنه جمع هذه المرة مكتوبا في أكثر من مصحف..



    وعلى لرغم من أن مظاهر التفاوت والاختلاف بين هذه المصاحف كانت شكلية, فان التجربة أكّدت لأصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام وجوب توحيدها جميعها في مصحف واحد.

    ففي خلافة عثمان رضي الله عنه, والمسلمون يواصلون فتوحاتهم وزحوفهم, مبتعدين عن المدينة, مغتربين عنها..

    في تلك الأيام, والاسلام يستقبل كل يوم أفواجا تلو أفواج من الداخلين فيه, المبايعين اياه, ظهر جليّا ما يمكن أن يفضي اليه تعدد المصاحف من خطر حين بدأت الألسنة تختلف على القرآن حتى بين الصحابة الأقدمين والأولين..

    هنالك تقدم الى الخليفة عثمان فريق من الأصحاب رضي الله عنهم على رأسهم حذيفة بن اليمان مفسرين الضرورة التي تحتم توحيد المصحف..



    واستخار الخليفة ربه وشاور صحبه..

    وكما استنجد أبو بكر الصديق من قبل بزيد بن ثابت, استنجد به عثمان أيضا..

    فجمع زيد أصحابه وأعوانه, وجاؤوا بالمصاحف من بيت حفصة بنت عمر رضي الله عنها, وكانت محفوظة لديها, وباشر زيد وصحبه مهمتهم العظيمة الجليلة..

    كان كل الذين يعاونون زيدا من كتاب الوحي, ومن حفظة القرآن..

    ومع هذا فما كانوا يختلفون , وقلما كانوا يختلفون, الا جعلوا رأي زيد وكلمته هي الحجة والفيصل.



    **



    والآن نحن نقرأ القرآن العظيم ميسّرا, أو نسمعه مرتلا, فان الصعوبات الهائلة التي عاناها الذين اصطنعهم الله لجمعه وحفظه لا تخطر لنا على بال..!!

    تماما مثل الأهوال التي كابدوها, والأرواح التي بذلوها, وهم يجاهدون في سبيل الله, ليقرّوا فوق الأرض دينا قيّما, وليبددوا ظلامها بنوره المبين..

  3. #33
    تاريخ التسجيل : Dec 2006
    رقم العضوية : 20624



    ---((( خالد بن سعيد )))---

    فدائيّ, من الرعيل الأول



    في بيت وارف النعمة, مزهو بالسيادة, ولأب له في قريش صدارة وزعامة, ولد خالد بن سعيد بن العاص, وان شئتم مزيدا من نسبه فقولوا: ابن اميّة بن عبد شمس بن عبد مناف..

    ويوم بدأت خيوط النور تسري في أنحاء مكة على استحياء, هامسة بأن محمدا الأمين يتحدث عن وحي جاءه في غار حراء, وعن رسالة تلقاها من الله ليبلغها الى عباده, كان قلب خالد يلقي للنور الهامس سمعه وهو شهيد..!!

    وطارت نفسه فرحا, كأنما كان وهذه الرسالة على موعد.. وأخذ يتابع خيوط النور في سيرها ومسراها.. وكلما سمع ملأ من قومه يتحدثون عن الدين الجديد, جلس اليهم وأصغى في حبور مكتوم, وبين الحين والحين يطعّم الحديث بكلمة منه, أو كلمات تدفعه في طريق الذيوع, والتأثير, والايحاء..!

    كان الذي يراه آنئذ, يبصر شابا هادئ السمت, ذكيّ الصمت, بينما هو في باطنه وداخله, مهرجان حافل بالحركة والفرح.. فيه طبول تدق.. ورايات ترتفع.. وأبواق تدوّي.. وأناشيد تصلي.. وأغاريد تسبّح..

    عيد بكل جمال العيد, وبهجة العيد وحماسة العيد, وضجة العيد..!!!

    وكان الفتى يطوي على هذا العيد الكبير صدره, ويكتم سرّه, فان أباه لو علم أنه يحمل في سريرته كل هذه الحفاوة بدعوة محمد, لأزهق حياته قربانا لآلهة عبد مناف..!!

    ولكن أنفسنا الباطنة حين تفعم بأمر, ويبلغ منها حدّ الامتلاء فانها لا تملك لافاضته دفعا..

    وذات يوم..

    ولكن لا.. فان النهار لم يطلع بعد, وخالد ما زال في نومه اليقظان, يعالج رؤيا شديدة الوطأة, حادة التأثير, نفاذة العبير..



    نقول اذن: ذات ليلة, رأى خالد بن سعيد في نومه أنه واقف على شفير نار عظيمة, وأبوه من ورائه يدفعه بكلتا يديه, ويريد أن يطرحه فيها, ثم رأى رسول الله يقبل عليه, ويجذبه بيمينه المباركة من ازاره فيأخذه بعيدا عن النار واللهب..

    ويصحو من نومه مزوّدا بخطة العمل في يومه الجديد, فيسارع من فوره الى دار أبي بكر, ويقصّ عليه الرؤيا.. وما كانت الرؤيا بحاجة الى تعبير.. وقال له أبو بكر:

    " انه الخير أريد لك.. وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه, فان الاسلام حاجزك عن النار".

    وينطلق خالد باحثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يهتدي الى مكانه فيلقاه, ويسأل النبي عن دعوته, فيجيبه عليه السلام:

    " تؤمن بالله وحده, ولا تشرك به شيئا..

    وتؤمن بمحمد عبده ورسوله.. وتخلع عبادة الأوثان التي لا تسمع ولا تبصر, ولا تضر ولا تنفع"..

    ويبسط خالد يمينه, فتلقاها يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفاوة, ويقول خالد:

    " اني أشهد أن لا اله الا الله...

    وأشهد أن محمدا رسول الله"..!!

    وتنطلق أغاريد نفسه وأناشيدها..

    ينطلق لمهرجان كله الذي كان في باطنه.. ويبلغ النبأ أباه.



    **



    يوم أسلم سعيد, لم يكن قد سبقه الى الاسلام سور اربعة أو خمسة,فهو اذن من الخمسة الأوائل المبكرين الى الاسلام.

    وحين يباكر بالاسلام واحد من ولد سعيد بن العاص, فان ذلك في رأي سعيد, عمل يعرّضه للسخرية والهوان من قريش, ويهز الأرض تحت زعامته.

    وهكذا دعا اليه خالد, وقال له:" أصحيح أنك اتبعت محمدا وأنت تسمعه يعيب آلهتنا"..؟؟

    قال خالد: " انه والله لصادق..

    ولقد آمنت به واتبعته"..

    هنالك انهال عليه أبوه ضربا, ثم زجّ به في غرفة مظلمة من داره, حيث صار حبيسها, ثم راح يضنيه ويرهقه جوعا وظمأ..

    وخالد يصرخ فيهم من وراء الباب المغلق عليه:

    " والله انه لصادق, واني به لمؤمن".

    وبدا لسعيد أن ما أنزل بولده من ضرر لا يكفي, فخرج به الى رمضاء مكة, حيث دسّه بين حجارتها الثقيلة الفادحة الملتهبة ثلاثة أيام لا يواريه فيها ظل..!!

    ولا يبلل شفتيه قطرة ماء..!!

    ويئس الوالد من ولده, فعاد به الى داره, وراح يغريه, ويرهبه.. يعده, ويتوعّده.. وخالد صامد كالحق, يقول لأبيه:

    " لن أدع الاسلام لشيء, وسأحيا به وأموت عليه"..

    وصاح سعيد:

    " اذن فاذهب عني يا لكع, فواللات لأمنعنّك القوت"..

    وأجابه خالد:

    ".. والله خير الرازقين"..!!

    وغادر الدار التي تعجّ بالرغد, من مطعم وملبس وراحة..

    غادرها الى الخصاصة والحرمان..

    ولكن أي بأس..؟؟

    أليس ايمانه معه..؟؟

    ألم يحتفظ بكل سيادة ضميره, وبكل حقه في مصيره..؟؟

    ما الجوع اذن, وما الحرمان, وما العذاب..؟؟



    واذا وجد انسان نفسه مع حق عظيم كهذا الحق الذي يدعو اليه محمد رسول الله, فهل بقي في العالم كله شيء ثمين لم يمتلكه من ربح نفسه في صفقة, الله صاحبها وواهبها...؟؟

    وهكذا راح خالد بن سعيد يقهر العذاب بالتضحية, ويتفوق على الحرمان بالايمان..

    وحين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه المؤمنين بالهجرة الثانية الى الحبشة, كان خالد بن سعيد, ممن شدّوا رحالهم اليها..



    ويمكث خالد هناك الى ما شاء الله ان يمكث, ثم يعود مع اخوانه راجعين الى بلادهم, سنة سبع, فيجدون المسلمين قد فرغوا لتوهم من فتح خيبر..

    ويقيم خالد بالمدينة وسط المجتمع المسلم الجديد الذي كان أحد الخمسة الأوائل الذين شهدوا ميلاده, وأسسوا بناءه, ولا يغزو النبي غزوة, ولا يشهد مشهدا, الا وخالد بن سعيد من السابقين..

    وكان خالد بسبقه الى الاسلام, وباستقامة ضميره ونهجه موضع الحب والتكريم..

    كان يحترم اقتناعه فلا يزيفه ولا يضعه موضع المساومة.

    قبل وفاة الرسول جعله عليه السلام واليا على اليمن..

    ولما ترامت اليه أنباء استخلاف أبي بكر, ومبايعته غادر عمله قادما الى المدينة..

    وكانه يعرف لأبي بكر الفضل الذي لا يطاول..

    بيد أنه كان يرى أن أحق المسلمين بالخلافة واحد من بين هاشم:

    العباس مثلا, أو عليّ ابن أبي طالب..

    ووقف الى جانب اقتناعه فلم يبايع أبا بكر..

    وظل أبو بكر على حبه له, وتقديره اياه لا يكرهه على أن يبايع, ولا يكرهه لأنه لم يبايع, ولا يأتي ذكره بين المسلمين الا أطراه الخليفة العظيم, وأثنى عليه بما هو أهله..

    ثم تغيّر اقتناع خالد بن سعيد, فاذا هو يشق الصفوف في المسجد يوما وأبو بكر فوق المنبر, فيبايعه بيعة صادقة وثقى..



    **



    ويسيّر أبا بكر جيوشه الى الشام, ويعقد لخالد بن سعيد لواء, فيصير أحد أمراء الجيش..

    ولكن يحدث قبل أن تتحرك القوات من المدينة أن يعارض عمر في امارة خالد بن سعيد, ويظل يلح على الخليفة أن يغيّر قراره بشأن امارة خالد..

    ويبلغ النبأ خالد, فلا يزيد على قول:

    " والله ما سرّتنا ولايتكم, ولا ساءنا عزلكم"..!!

    ويخفّ الصدّيق رضي الله عنه الى دار خالد معتذرا له, ومفسرا له موقفه الجديد, ويسأله مع من من القوّاد والأمراء يجب أن يكون: مع عمرو بن العاص وهو ابن عمه, أو مع شرحبيل بن حسنة؟

    فيجيب خالد اجابة تنمّ على عظمة نفسه وتقاها:

    " ابن عمّي أحبّ اليّ في قرابته, وشرحبيل أحبّ اليّ في دينه"..

    ثم اختار أن يكون جنديا في كتيبة شرحبيل بن حسنة..



    ودعا ابو بكر شرحبيل اليه قبل أن يتحرّك الجيش, وقال له:

    " انظر خالد بن سعيد, فاعرف له من الحق عليك, مثل ما كنت تحبّ أن يعرف من الحق لك, لو كنت مكانه, وكان مكانك..

    انك لتعرف مكانته في الاسلام..

    وتعلم أن رسول الله توفى وهو له وال..

    ولقد كنت وليته ثم رأيت غير ذلك..

    وعسى أن يكون ذلك خيرا له في دينه, فما أغبط أحد بالامارة..!!

    وقد خيّرته في أمراء الجند فاختارك على ابن عمّه..

    فاذا نزل بك أمر تحتاج فيه الى رأي التقي الناصح, فليكن أول من تبدأ به: أبو عبيدة بن الجرّاح, ومعاذ بن جبل.. واليك خالد بن سعيد ثالثا, فانك واجد عندهم نصحا وخيرا..

    واياك واستبداد الرأي دونهم, أو اخفاءه عنهم"..



    وفي موقعه مرج الصفر بأرض الشام, حيث كانت المعارك تدور بين المسلمين والروم, رهيبة ضارية, كان في مقدمة الذين وقع أجرهم على اله, شهيد جليل, قطع طريق حياته منذ شبابه الباكر حتى لحظة استشهاده في مسيرة صادقة مؤمنة شجاعة..

    ورآه المسلمون وهم يفحصون شهداء المعركة, كما كان دائما, هادئ السّمت, ذكي الصمت, قوي التصميم, فقالوا:

    " اللهم ارض عن خالد بن سعيد"..!!

  4. #34
    تاريخ التسجيل : Dec 2006
    رقم العضوية : 20624



    ---((( أبو أيوب الأنصاري )))---

    انفروا خفافا وثقالا



    كان الرسول عليه السلام يدخل المدينة مختتما بمدخله هذا رحلة هجرته الظافرة, ومستهلا أيامه المباركة في دار الهجرة التي ادّخر لها القدر ما لم يدخره لمثلها في دنيا الناس..

    وسار الرسول وسط الجموع التي اضطرمت صفوفها وأفئدتها حماسة, ومحبة وشوقا... ممتطيا ظهر ناقته التي تزاحم الناس حول زمامها كل يريد أن يستضيف رسول الله..

    وبلغ الموكب دور بني سالم بن عوف, فاعترضوا طريق الناقة قائلين:

    " يا رسول الله, أقم عندنا, فلدينا العدد والعدة والمنعة"..

    ويجيبهم الرسول وقد قبضوا بأيديهم على زمام الناقة:

    " خلوا سبيلها فانها مأمورة".

    ويبلغ الموكب دور بني بياضة, فحيّ بني ساعدة, فحي بني الحارث بن الخزرج, فحي عدي بن النجار.. وكل بني قبيل من هؤلاء يعترض سبيل الناقة, وملحين أن يسعدهم النبي عليه الصلاة والسلام بالنزول في دورهم.. والنبي يجيبهم وعلى شفتيه ابتسامة شاكرة:

    " خلوا سبيلها فانها مأمورة..



    لقد ترك النبي للمقادير اختيار مكان نزوله حيث سيكون لها المنزل خطره وجلاله.. ففوق أرضه سينهض المسجد الذي تنطلق منه الى الدنيا بأسرها كلمات الله ونوره.. والى جواره ستقوم حجرة أو حجرات من طين وطوب.. ليس بها من متاع الدنيا سوى كفاف, أو أطياف كفاف!! سيسكنها معلم, ورسول جاء لينفخ الحياة في روحها الهامد. وليمنح كل شرفها وسلامها للذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا.. للذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم.. وللذين أخلصوا دينهم لله.. للذين يصلحون في الأرض ولا يفسدون.

    أجل كان الرسول عليه الصلاة والسلام ممعنا في ترك هذا الاختيار للقدر الذي يقود خطاه..

    من اجل هذا, ترك هو أيضا زمام ناقته وأرسله, فلا هو يثني به عنقها ولا يستوقف خطاها.. وتوجه الى الله بقلبه, وابتهل اليه بلسانه:

    " اللهم خر لي, واختر لي"..

    وأمام دار بني مالك بن النجار بركت الناقة.. ثم نهضت وطوّفت بالمكان, ثم عادت الى مبركها الأول, وألقت جرانها. واستقرت في مكانها ونزل الرسول للدخول.. وتبعه رسول الله يخف به اليمن والبركة..

    أتدرون من كان هذا السعيدالموعود الذي بركت الناقة أمام داره, وصار الرسول ضيفه, ووقف أهل المدينة جميعا يغبطونه على حظوظه الوافية..؟؟

    انه بطل حديثنا هذا.. أبو أيوب الأنصاري خالد بن زيد, حفيد مالك بن النجار..

    لم يكن هذا أول لقاء لأبي أيوب مع رسول الله..

    فمن قبل, وحين خرج وفد المدينة لمبايعة الرسول في مكة تلك البيعة المباركة المعروفة ببيعة العقبة الثانية.. كان أبو أيوب الأنصاري بين السبعين مؤمنا الذين شدّوا أيمانهم على يمين الرسول مبايعين, مناصرين.



    والآن رسول الله يشرف المدينة, ويتخذها عاصمة لدين الله, فان الحظوظ الوافية لأبي أيوب جعلت من داره أول دار يسكنها المهاجر العظيم, والرسول الكريم.

    ولقد آثر الرسول أن ينزل في دورها الأول.. ولكن ما كاد أبو أيوب يصعد الى غرفته في الدور العلوي حتى أخذته الرجفة, ولم يستطع أن يتصوّر نفسه قائما أو نائما, وفي مكان أعلى من المكان الذي يقوم فيه رسول الله وينام..!!

    وراح يلح على النبي ويرجوه ان ينتقل الى طابق الدور الأعلى فاستجاب النبي لرجائه..

    ولسوف يمكث النبي بها حتى يتمّ المسجد, وبناء حجرة له بجواره..

    ومنذ بدأت قريش تتنمّر للاسلام وتشن اغاراتها على دار الهجرة بالمدينة, وتؤلب القبائل, وتجيش الجيوش لتطفئ نور الله..

    منذ تلك البداية, واحترف أبو أيوب صناعة الجهاد في سبيل الله.

    ففي بدر, وأحد والخندق, وفي كل المشاهد والمغازي, كان البطل هناك بائعا نفسه وماله لله ربو العالمين..

    وبعد وفاة الرسول, لم يتخلف عن معركة كتب على المسلمين أن يخوضوها, مهما يكن بعد الشقة, وفداحة المشقة..!

    وكان شعاره الذي يردده دائما, في ليله ونهاره.. في جهره واسراره.. قول الله تعالى:

    ( انفروا خفافا وثقالا)..

    مرة واحدة.. تخلف عن جيش جعل الخليفة أميره واحدا من شباب المسلمين, ولم يقتنع أبو أيوب بامارته.

    مرة واحدة لا غير.. مع هذا فان الندم على موقفه هذا ظل يزلزل نفسه, ويقول:

    " ما عليّ من استعمل عليّ"..؟؟

    ثم لم يفته بعد ذلك قتال!!



    كان حسبه أن يعيش جنديا في جيش الاسلام, يقاتل تحت رايته, ويذود عن حرمته..

    ولما وقع الخلاف بين علي ومعاوية, وقف مع علي في غير تردد, لأنه الامام الذي أعطي بيعة المسلمين.. ولما استشهد وانتهت الخلافة لمعاوية وقف أبو أيوب بنفسه الزاهدة, الصامدة التقية لا يرجو من الدنيا سوى مكان فوق أرض الوغى, وبين صفوف المجاهدين..

    وهكذا, لم يكد يبصر جيش الاسلام يتحرك صوب القسطنطينية حتى ركب فرسه, وحمل سيفه, وراح يبحث عن استشهاد عظيم طالما حنّ اليه واشتاق..!!



    وفي هذه المعركة أصيب.

    وذهب قائد جيشه ليعوده, وكانت أنفاسه تسابق أشواقه الى لقاء الله..

    فسأله القائد, وكان يزيد بن معاوية:

    " ما حاجتك أبا أيوب"؟

    ترى, هل فينا من يستطيع أن يتصوّر أو يتخيّل ماذا كانت حاجة أبا أيوب..؟

    كلا.. فقد كانت حاجته وهو يجود بروحه شيئا يعجز ويعيي كل تصوّر, وكل تخيّل لبني الانسان..!!

    لقد طلب من يزيد, اذا هو مات أن يحمل جثمانه فوق فرسه, ويمضي به الى أبعد مسافة ممكنة في أرض العدو, وهنالك يدفنه, ثم يزحف بجيشه على طول هذا الطريق, حتى يسمع وقع حوافر خيل المسلمين فوق قبره, فيدرك آنئذ أنهم قد أدركوا ما يبتغون من نصر وفوز..!!

    أتحسبون هذا شعرا..؟

    لا.. ولا هو بخيال, بل واقع, وحق شهدته الدنيا ذات يوم, ووقفت تحدق بعينيها, وبأذنيها, لا تكاد تصدق ما تسمع وترى..!!

    ولقد أنجز يزيد وصيّة أبي أيوب..

    وفي قلب القسطنطينية, وهي اليوم استامبول, ثوى جثمان رجل عظيم, جدّ عظيم..!!



    وحتى قبل أن يغمر الاسلام تلك البقاع, كان أهل القسطنطينية من الروم, ينظرون الى أبي أيوب في قبره نظرتهم الى قدّيس...

    وانك لتعجب اذ ترى جميع المؤرخين الذين يسجلون تلك الوقائع ويقولون:

    " وكان الروم يتعاهدون قبره, ويزورونه.. ويستسقون به اذا قحطوا"..!!



    وعلى الرغم من المعارك التي انتظمت حياة أبي أيوب, والتي لم تكن تمهله ليضع سيفه ويستريح, على الرغم من ذلك, فان حياته كانت هادئة, نديّة كنسيم الفجر..



    ذلك انه سمع من الرسول صلى الله عليه وسلم حديثا فوعاه:

    " واذا صليت فصل صلاة مودّع..

    ولا تكلمن الناس بكلام تعتذر منه..

    والزم اليأس مما في أيدي الناس"...

    وهكذا لم يخض في لسانه فتنة..

    ولم تهف نفسه الى مطمع..

    وقضى حياته في أشواق عابد, وعزوف مودّع..

    فلما جاء أجله, لم يكن له في طول الدنيا وعرضها من حاجة سوى تلك الأمنية لتي تشبه حياته في بطولتها وعظمتها:

    " اذهبوا بجثماني بعيدا.. بعيدا.. في ارض الروم ثم ادفنوني هناك"...

    كان يؤمن بالنصر, وكان يرى بنور بصيرته هذه البقاع, وقد أخذت مكانها بين واحات الاسلام, ودخلت مجال نوره وضيائه..

    ومن ثمّ أراد أن يكون مثواه الأخير هناك, في عاصمة تلك البلاد, حيث ستكون المعركة الأخيرة الفاصلة, وحيث يستطيع تحت ثراه الطيّب, أن يتابع جيوش الاسلام في زحفها, فيسمع خفق أعلامها, وصهيل خيلها, ووقع أقدامها, وصلصلة سيوفها..!!

    وانه اليوم لثاو هناك..

    لا يسمع صلصلة السيوف, ولا صهيل الخيول..

    قد قضي الأمر, واستوت على الجوديّ من أمد بعيد..

    لكنه يسمع كل يوم من صبحه الى مسائه, روعة الأذان المنطلق من المآذن المشرّعة في الأفق..

    أن:

    الله أكبر..

    الله أكبر..

    وتجيب روحه المغتبطة في دار خلدها, وسنا مجدها:

    هذا ما وعدنا الله ورسوله

    وصدق الله ورسوله....

  5. #35
    تاريخ التسجيل : Dec 2006
    رقم العضوية : 20624



    ---((( العباس بن عبد المطلب )))---

    ساقي الحرمين



    في عام الرمادة, وحيث أصاب العباد والبلاد قحط وبيل, خرج أمير المؤمنين عمر والمسلمون معه الى الفضاء الرحب يصلون صلاة الاستسقاء, ويضرعون الى الله الرحيم أن يرسل اليهم الغيث والمطر..

    ووقف عمر وقد أمسك يمين العباس بيمينه, ورفعها صوب السماء وقال:

    " اللهم انا كنا نسقى بنبيك وهو بيننا..

    اللهم وانا اليوم نستسقي بعمّ نبيّك فاسقنا"..

    ولم يغادر المسلمون مكانهم حتى جاءهم الغيث, وهطل المطر, يزفّ البشرى, ويمنح الريّ, ويخصب الأرض..

    وأقبل الأصحاب على العباس يعانقونه, ويقبّلونه, ويتبركون به وهم يقولون:

    " هنيئا لك..

    ساقي الحرمين"..

    فمن كان ساقي الحرمين هذا..؟؟

    ومن ذا الذي توسل به به عمر الى الله.. تقى وسبقا ومكانة عند الله ورسوله ولدى المؤمنين..؟؟

    انه العباس عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم..

    كان الرسول يجلّه بقدر ما كان يحبه, وكان يمتدحه ويطري سجاياه قائلا:

    " هذه بقيّة آبائي"..



    **



    هذا العباس بن عبد المطلب أجود قريش كفا وأوصلها"..!!

    وكما كان حمزة عمّ الرسول وتربه, كذلك كان العباس رضي الله عنه فلم يكن يفصل بينهما في سنوات العمر سوى سنتين أو ثلاث, تزيد في عمر العباس عن عمر الرسول..

    وهكذا كان محمد, والعباس عمه, طفلين من سن واحدة, وشابين من جيل واحد..

    فلم تكن القرابةالقريبة وحدها, آصرة ما بينهما من ودّ, بل كانت كذلك زمالة السنّ,وصداقة العمر..

    وشيء آخر نضعه معايير النبي في المكان الأول دوما.. ذلك هو خلق العباس وسجاياه..

    فلقد كان العباس جوّادا, مفرط الجود, حتى كأنه للمكارم عمّها أو خالها..!!

    وكان وصولا للرحم والأهل, لا يضنّ عليهما بجهد ولا بجاه, ولا بمال...

    وكان الى هذه وتلك, فطنا الى حدّ الدهاء, وبفطنته هذه التي تعززها مكانته الرفيعة في قريش, استطاع أن يدرأ عن الرسول عليه الصلاة والسلام حين يجهر بدعوته الكثير من الأذى والسوء..



    **



    كان حمزة كما رأينا في حديثنا عنه من قبل يعالج بغي قريش, وصلف أبي جهل بسيفه الماحق..

    أما العباس فكان يعالجها بفطنة ودهاء أدّيا للاسلام من النفع مثلما أدّت السيوف المدافعة عن حقه وحماه..!!



    فالعباس لم يعلن اسلامه الا عام فتح مكة, مما جعل بعض المؤرخين يعدونه مع الذين تأخر اسلامه..

    بيد أن روايات أخرى من التاريخ تنبئ بأنه كان من المسلمين المبكّرين, غير أنه كان يكتم اسلامه..

    يقول أبو رافع خادم الرسول صلى الله عليه وسلم:

    " كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب, وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت, فأسلم العباس, وأسلمت أم الفضل, وأسلمت... وكان العباس يكتم اسلامه"..

    هذه رواية أبو رافع يتحدث بها عن حال العباس واسلامه قبل غزوة بدر..

    كان العباس اذن مسلما..

    وكان مقامه بمكة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه خطة أدت غايتها على خير نسق..

    ولم تكن قريش تخفي شكوكها في نوايا العباس ولكنها أيضا لم تكن تجد سبيلا لمحادّته, لا سيما وهو في ظاهر أمره على ما يرضون من منهج ودين..

    حتى اذا جاءت غزوة بدر رأتها قريش فرصة تبلو بها سريرة العباس وحقيقته..

    والعباس أدهى من أن يغفل عن اتجاهات ذلك المكر السيء الذي تعالج به قريش حسراتها, وتنسج به مؤامراتها..

    ولئن كان قد نجح في ابلاغ النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أنباء قريش وتحرّكاتها, فان قريشا ستنجح في دفعه الى معركة لا يؤمن بها ولا يريدها.. بيد أنه نجاح موقوت لن يلبث حتى ينقلب على القرشيين خسارا وبوارا..



    **



    ويلتقي الجمعان في غزوة بدر..

    وتصطك السيوف في عنفوان رهيب, مقررة مصير كل جمع, وكل فريق..

    وينادي الرسول في أصحابه قائلا:

    " ان رجالا من بني هاشم, ومن غير بني هاشم, قد أخرجوا كرها, لا حاجة لهم بقتالنا.. فمن لقي منكم أحدهم فلا يقتله..

    ومن لقي البختريّ بن هشام بن الحارث بن أسد فلا يقتله..

    ومن لقي العباس بن عبد المطلب فلا يقتله, فانه انما أخرج مستكرها"..

    لم يكن الرسول بأمره هذا يخصّ عمّه العباس بميّزة, فما تلك مناسبة المزايا, ولا هذا وقتها..

    وليس محمد عليه الصلاة والسلام من يرى رؤوس أصحابه تتهاوى في معرة الحق, ثم يشفع والقتال دائر لعمه, لو كان يعلم أن عمه من المشركين..

    أجل..

    ان الرسول الذي نهى عن أن يستغفر لعمه أبي طالب على كثرة ما أسدى أبو طالب له وللاسلام من أياد وتضحيات..

    ليس هو منطقا وبداهة من يجيء في غزوة بدر ليقول لمن يقتلون آباءهم واخوانهم من المشركين: استثنوا عمي ولا تقتلوه..!!

    أما اذا كان الرسول يعلم حقيقة عمه, ويعلم أنه يطوي على الاسلام صدره, كما يعلم أكثر من غيره, الخدمات غير المنظورة التي أدّاها للاسلام.. كما يعلم أخيرا أنه خرج مكرها ومحرجا فآنئذ يصير من واجبه أن ينقذ من هذا شأنه, وأن يعصم من القتل دمه ما استطاع لهذا سبيلا..





    واذا كان أبو البختري بن حارث وهذا شأنه, قد ظفر بشفاعة الرسول لدمه حتى لا يهدر, ولحياته كي لا تزهق..

    أفلا يكون جديرا بهذه الشفاعة, مسلم يكتم اسلامه... ورجل له في نصرة الاسلام مواقف مشهودة, وأخرى طوي عليها ستر الخفاء..؟؟

    بلى..ولقد كان العباس ذلك المسلم, وذلك النصير.

    ولنعد الى الوراء قليلا لنرى..



    **



    في بيعة العقبة الثانية عندما قدم مكة في موسم الحاج وفد الأنصار, ثلاثة وسبعون رجلا وسيدتان, ليعطوا الله ورسوله بيعتهم, وليتفقوا مع النبي عليه الصلاة والسلام على الهجرة الى المدينة, أنهى الرسول الى عمه العباس نبأ هذا الوفد, وهذه البيعة.. وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يثق بعمه في رأيه كله..

    ولما جاء موعد اللقاء الذي انعقد سرا وخفية, خرج الرسول وعمه العباس الى حيث الأنصار ينتظرون..

    وأراد العباس ان يعجم عود القوم ويتوثق للنبي منهم..

    ولندع واحدا من أعضاء الوفد يروي لنا النبأ, كما سمع ورأى.. ذلكم هو كعب بن مالك رضي الله عنه:

    ".. وجلسنا في الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا ومعه العباس بن عبد المطلب.. وتكلم العباس فقال: يا معشر الخزرج, ان محمدا منا حيث قد علمتم, وقد منعناه من قومنا فهو في عز من قومه ومنعة في بلده, وانه أبى الا الانحياز اليكم واللحوق بكم..

    فان كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه اليه, ومانعوه ممن خالفه, فأنتم وما تحملتم من ذلك..

    وان كنتم ترون أنكم مسلموه خاذلوه بعد خروجه اليكم, فمن الآن فدعوه"..



    كان العباس يلقي بكلماته الحازمة هذه, وعيناه تحدقان كعيني الصقر في وجوه الانصار.. يتتبع وقع الكلام وردود فعله العاجلة..

    ولم يكتف العباس بهذا, فذكاؤه العظيم ذكاء عملي يتقصّى الحقيقة في مجالها المادي, ويواجه كل أبعادها مواجهة الحاسب الخبير..



    هناك استأنف حديثه مع الأنصار بسؤال ذكي ألقاه, ذلك هو:

    " صفوا لي الحرب, كيف تقاتلون عدوّكم"!!؟؟

    ان العباس بفطنته وتجربته مع قريش يدرك أن الحرب لا محالة قادمة بين الاسلام والشرك, فقريش لن تتنازل عن دينها ومجدها وعنادها.

    والاسلام ما دام حقا لن يتنازل للباطل عن حقوقه المشروعة..

    فهل الأنصار, أهل المدينة صامدون للحرب حين تقوم..؟؟

    وهل هم من الناحية الفنية, أكفاء لقريش, يجيدون فنّ الكرّ والفرّ والقتال..؟؟

    من اجل هذا ألقى سؤاله السالف:

    " صفوا لي الحرب, كيف تقاتلون عدوّكم"..؟؟

    كان الأنصار الذين يصغون للعباس رجالا كالأطواد...

    ولم يكد العباس يفرغ من حديثه, لا سيما ذلك السؤال المثير الحافز حتى شرع الأنصار يتكلمون..

    وبدأ عبدالله بن عمرو بن حرام مجيبا على السؤال:

    " نحن, والله, أهل الحرب.. غذينا بها,ومرّنا عليها, وورثناها عن آبائنا كابرا فكابر..

    نرمي بالنبل حتى تفنى..

    ثم نطاعن بالرماح حتى تنكسر..

    ثم نمشي بالسيوف, فنضارب بها حتى يموت الأعجل منا أو من عدونا"..!!

    وأجاب العباس متهللا:

    " أنتم أصحاب حرب اذن, فهل فيكم دروع"..؟؟

    قالوا:

    " نعم.. لدينا دروع شاملة"..

    ثم دار حديث رائع وعظيم بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين الأنصار.. حديث سنعرض له ان شاء الله فيما بعد.



    **



    هذا موقف العباس في بيعة العقبة..

    وسواء عليه أكان يومئذ اعتنق الاسلام سرا, أم كان لا يزال يفكّر, فان موقفه العظيم هذا يحدد مكانه بين قوى الظلام الغارب, والشروق المقبل,

    ويصوّر أبعاد رجولته ورسوخه..!!



    ويوم يجيء حنين ليؤكد فداءية هذا الهادئ السمت, اللين الجانب, حينما تدعو الحاجة اليها, ويهيب المواقف بها, بينما هي في غير ذلك الظرف الملحّ, مستكنّة تحت الأضلاع, متوارية عن الأضواء..!!



    **



    في السنة الثامنة للهجرة, وبعد ان فتح الله مكة لرسوله ولدينه عز بعض القبائل السائدة في الجزيرة العربية أن يحقق الدين الجديد كل هذا النصر بهذه السرعة..

    فاجتمعت قبائل هوزان وثقيف ونصر وجشم وآخرون. وقرروا شنّ حرب حاسمة ضدّ الرسول والمسلمين..

    ان كلمة قبائل لا ينبغي أن تخدعنا عن طبيعة تلك الحروب التي كان يخوضها الرسول طوال حياته. فنظن انها كانت مجرّد مناوشات جبلية صغيرة, فليس هناك حروب أشدّ ضراوة من حروب تلك القبائل في معاقلها..!!

    وادراك هذه الحقيقة لا يعطينا تقديرا سديدا للجهد الخارق الذي بذله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فحسب, بل يعطينا تقديرا صحيحا وأمينا لقيمة النصر العظيم الذي أحرزه الاسلام والمؤمنون, ورؤية واضحة لتوفيق الله الماثل في هذا النجاح وذلك الانتصار..



    احتشدت تلك القبائل في صفوف لجبة من المقاتلين الأشدّاء..

    وخرج اليهم المسلمون في اثني عشر ألفا..

    اثنا عشر ألفا..؟؟

    وممن..؟؟

    من الذين فتحوا مكة بالأمس القريب, وشيعوا الشرك والأصنام الى هاويتها الأخيرة والسحيقة, وارتفعت راياتهم تملأ الأفق دون مشاغب عليها أو مزاحم لها..!!

    هذا شيء يبعث الزهو..

    والمسلمون في آخر المطاف بشر, ومن ثم, فقد ضعفوا امام الزهو الذي ابتعثته كثرتهم ونظامهم, وانتصارهم بمكة, وقالوا:

    " لن نغلب اليوم عن قلة".

    ولما كانت السماء تعدّهم لغاية أجلّ من الحرب وأسمى, فان ركونهم الى قوتهم العسكرية, وزهزهم بانتصارهم الحربي, عمل غير صالح ينبغي أن يبرؤا منه سريعا, ولو بصدمة شافية..

    وكانت الصدمة الشافية هزيمة كبرى مباغتة في أول القتال, حتى اذا ضرعوا الى الله, وبرؤا من حولهم الى حوله, ومن قوتهم الى قوته, انقلبت الهزيمة نصرا, ونزل القرآن الكريم يقول للمسلمين:

    (.. ويوم حنين اذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا, وضاقت الأرض بما رحبت, ثم وليتم مدبرين. ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين, وأنزل جنودا لم تروها, وعذب الذين كفروا, وذلك جزاء الكافرين)..



    كان صوت العباس يومئذ وثباته من ألمع مظاهر السكينة والاستبسال..

    فبينما كان المسلمون مجتمعين في أحد أودية تهامة ينتظرون مجيء عدوّهم, كان المشركون قد سبقوهم الى الوادي وكمنوا لهم في شعابه وأحنائه, شاحذين أسلحتهم, ممسكين زمام المبادرة بأيديهم..

    وعلى حين غفلة, انقضّوا على المسلمين في مفاجأة مذهلة, جعلتهم يهرعون بعيدا, لا يلوي أحد على أحد..

    ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدثه الهجوم المفاجئ الخاطف على المسلمين, فعلا صهوة بغلته البيضاء, وصاح:

    " الى أين أيها الناس..؟؟

    هلموا اليّ..

    أنا النبي لا كذب..

    انا ابن عبد المطلب"..

    لم يكن حول النبي ساعتئذ سوى أبي بكر, وعمر, وعلي بن أبي طالب, والعباس بن عبد المطلب, وولده الفضل بن العباس, وجعفر بن الحارث, وربيعة بن الحارث, وأسامة بن زيد, وأيمن بن عبيد, وقلة أخرى من الأصحاب..

    وكان هناك سيدة أخذت مكانا عاليا بين الرجال والأبطال..

    تلك هي أم سليم بنت ملحان..

    رأت ذهول المسلمين وارتباكهم, فركبت جمل زوجها أبي طلحة رضي الله عنهما, وهرولت بها نحو الرسول..

    ولما تحرك جنينها في بطنها, وكانت حاملا, خلعت بردتها وشدّت بها على بطنها في حزام وثيق, ولما انتهت الى النبي صلى الله عليه وسلم شاهرة خنجرا في يمينها ابتسم لها الرسول وقال:

    " أم سليم؟؟"..

    قالت: " نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله..

    اقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك, كما تقتل الذين يقاتلونك, فانهم لذلك أهل"..

    وازدادت البسمة تألقا على وجه الرسول الواثق بوعد ربه وقال لها:

    " ان الله قد كفى وأحسن يا أم سليم"..!!



    هناك ورسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف, كان العباس الى جواره, بل كان بين قدميه بخطام بغلته يتحدى الموت والخطر..

    وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يصرخ في الناس, وكان العباس جسيما جهوري الصوت, فراح ينادي:

    " يا معشر الأنصار..

    يا أصحاب البيعة"...

    وكانما كان صوته داعي القدر ونذيره..

    فما كاد يقرع أسماع المرتاعين من هول المفاجأة, المشتتين في جنبات الوادي, حتى أجابوا في صوت واحد:

    " لبّيك.. لبّيك"..

    وانقلبوا راجعين كالاعصار, حتى ان أحدهم ليحرن بعيره أو فرسه, فيقتحم عنها ويترجل, حاملا درعه وسيفه وقوسه, ميممّا صوب صوت العباس..

    ودارت المعركة من جديد.. ضارية, عاتية..

    وصاح رسول الله صلى الله عليه وسلم:

    " الآن حمي الوطيس"..

    وحمي الوطيس حقا..

    وتدحرج قتلى هوزان وثقيف, وغلبت خيل الله خيل اللات, وأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين..!!!



    **



    كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب العباس عمه حبا كبيرا, حتى انه لم ينم يوم انتهت غزوة بدر, وقضى عمه ليله في الأسر..

    ولم يخف النبي عليه السلام عاطفته هذه, فحين سئل عن سبب أرقه, وقد نصره الله نصرا مؤزرا أجاب:

    " سمعت أنين العباس في وثاقه"..

    وسمع بعض المسلمين كلمات الرسول, فأسرع الى مكان الأسرى, وحلّ وثاق العباس, وعاد فأخبر الرسول قائلا:

    " يا رسول الله..

    اني أرخيت من وثاق العباس شيئا"..

    ولكن لماذا وثاق العباس وحده..؟

    هنالك قال الرسول لصاحبه:

    " اذهب, فافعل ذلك بالأسرى جميعا".

    أجل فحب النبي صلى الله عليه وسلم لعمه لا يعني أن يميزه عن الناس الذين تجمعهم معه ظروف مماثلة..

    وعندما تقرر أخذ الفدية من الأسرى, قال الرسول لعمه:

    " يا عباس..

    افد نفسك, وابن اخيك عقيل بن أبي طالب, ونوفل بن الحارث, وحليفك عتبة بن عمرو وأخا بني الحارث بن فهر, فانك ذومال"..

    وأراد العباس أن يغادر أسره بلا فدية, قائلا:

    " يا رسول الله, اني كنت مسلما, ولكن القوم استكرهوني"..

    ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أصرّ على الفدية, ونزل لقرآن الكريم في هذه المناسبة يقول:

    " يا ايها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى ان يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم, والله غفور رحيم".

    وهكذا فدى العباس نفسه ومن معه, وقفل راجعا الى مكة.. ولم تخدعه قريش بعد ذلك عن عقله وهداه, فبعد حين جمع ماله وحمل متاعه, وأدرك الرسول بخيبر, ليأخذ مكانه في موكب الاسلام, وقافلة المؤمنين.. وصار موضع حب المسلمين واجلالهم العظيم, لا سيما وهم يرون تكريم الرسول له وحبه اياه وقوله عنه:

    " انما العباس صنو أبي..

    فمن آذى العباس فقد آذاني".

    وأنجب العباس ذريّة مباركة.

    وكان حبر الأمة عبدالله بن عباس واحدا من هؤلاء الأبناء المباركين.



    **



    وفي يوم الجمعة لأربع عشرة سنة خلت من رجب سنة اثنتين وثلاثين سمع اهل العوالي بالمدينة مناديا ينادي:

    " رحم الله من شهد العباس بن عبد المطلب".

    فأدركوا أن العباس قد مات..

    وخرج الناس لتشييعه في أعداد هائلة لم تعهد المدينة مثلها..

    وصلى عليه خليفة المسلمين يومئذ عثمان رضي الله عنه.

    وتحت ثرى البقيع هدأ جثمان أبي الفضل واستراح..

    ونام قرير العين, بين الأبرار الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه!!

  6. #36
    تاريخ التسجيل : Dec 2006
    رقم العضوية : 20624



    ---((( أبو هريرة )))---



    ذاكرة عصر الوحي



    صحيح أن ذكاء المرء محسوب عليه..

    وأصحاب المواهب الخارقة كثيرا ما يدفعون الثمن في نفس الوقت الذي كان ينبغي أن يتلقوا فيه الجزاء والشكران..!!

    والصحابي الجليل أبو هريرة واحد من هؤلاء..

    فقد كان ذا موهبة خارقة في سعة الذاكرة وقوتها..

    كان رضي الله عنه يجيد فنّ الاصغاء, وكانت ذاكرته تجيد فن الحفظ والاختزان..

    يسمع فيعي, فيحفظ, ثم لا يكاد ينسى مما وعى كلمة ولا حرفا مهما تطاول العمر, وتعاقبت الأيام..!!

    من أجل هذا هيأته موهبته ليكون أكثر أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم حفظا لأحاديثه, وبالتالي أكثرهم رواية لها.



    فلما جاء عصر الوضّاعين الذين تخصصوا في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم, اتخذوا أبا هريرة غرضا مستغلين أسوأ استغلال سمعته العريضة في الرواية عن رسول الله عليه السلام موضع الارتياب والتساؤل. لولا تلك الجهود البارة والخارقة التي بذلها أبرار كبار نذور حياتهم وكرّسوها لخدمة الحديث النبوي ونفي كل زيف ودخيل عنه.

    هنالك نجا أبو هريرة رضي الله عنه من أخطبوط الأكاذيب والتلفيقات التي أراد المفسدون أن يتسللوا بها الى الاسلام عن طريقه, وأن يحمّلوه وزرها وأذاها..!!



    **



    والآن.. عندما نسمع واعظا, أو محاضرا, أو خطيب جمعة يقول تلك العبارة المأثورة:" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم..".

    أقول: عندما تسمع هذا الاسم على هذه الصورة, أو عندما تلقاه كثيرا, وكثيرا جدّا في كتب الحديث, والسيرة والفقه والدين بصفة عامة, فاعلم أنك تلقى شخصية من أكثر شخصيات الصحابة اغراء بالصحبة والاصغاء..

    ذلك أن ثروته من الأحاديث الرائعة, والتوجيهات الحكيمة التي حفظها عن النبي عليه السلام, قلّ أن يوجد لها نظير..

    وانه رضي الله عنه بما يملك من هذه الموهبة, وهذه الثروة, لمن أكثر الأصحاب مقدرة على نقلك الى تلك الأيام التي عاشها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم, والى التحليق بك, اذا كنت وثيق الايمان مرهف النفس, في تاك الآفاق التي شهدت روائع محمد وأصحابه, تعطي الحياة معناها, وتهدي اليها رشدها ونهاها.

    واذا كانت هذه السطور قد حرّكت أشواقك لأن تتعرّف لأبي هريرة وتسمع من أنبائه نبأ, فدونك الآن وما تريد..

    انه واحد من الذين تنعكس عليهم ثروة الاسلام بكل ما أحدثته من تغيرات هائلة.

    فمن أجير الى سيّد..

    ومن تائه في الزحام, الى علم وامام..!!

    ومن ساجد أمام حجارة مركومة, الى مؤمن بالله الواحد القهار..

    وهاهو ذا يتحدّث ويقول:

    " نشأت يتيما, وهاجرت مسكينا.. وكنت أجيرا لبسرة بنت غزوان بطعام بطني..!!

    كنت أخدمهم اذا نزلوا, وأحدو لهم اذا ركبوا..

    وهأنذا وقد زوّجنيها الله, فالحمد لله الذي جعل الدين قواما, وجعل أبا هريرة اماما"..!

    قدم على النبي عليه الصلاة والسلام سنة سبع وهو بخيبر, فأسلم راغبا مشتاقا..

    ومنذ رأى النبي عليه الصلاة والسلام وبايعه لم يكد يفارقه قط الا في ساعات النوم..

    وهكذا كانت السنوات الأربع التي عاشها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم الى أن ذهب النبي الى الرفيق الأعلى.

    نقول: كانت تلك السنوات الأربع عمرا وحدها.. كانت طويلة عريضة, ممتلئة بكل صالح من القول, والعمل, والاصغاء.



    **



    أدرك أبو هريرة بفطرته السديدة الدور الكبير الذي يستطيع أن يخدم به دين الله.

    ان أبطال الحرب في الصحابة كثيرون..

    والفقهاء والدعاة والمعلمون كثيرون.

    ولكن البيئة والجماعة تفتقد الكتابة والكتّاب.

    ففي تلك العصور, وكانت الجماعة الانسانية كلها, لا العرب وحدهم, لا يهتمون بالكتابة, ولم تكن الكتابة من علامات التقدم في مجتمع ما..

    بل انّ أوروبا نفسها كانت كذلك منذ عهد غير بعيد.

    وكان أكثر ملوكها وعلى رأسهم شارلمان أميّين لا يقرءون ولا يكتبون, مع أنهم في نفس الوقت كانوا على حظ كبير من الذكاء والمقدرة..



    **



    نعود الى حديثنا لنرى أبا هريرة يدرك بفطرته حاجة المجتمع الجديد الذي يبنيه الاسلام الى من يحفظ تراثه وتعاليمه, كان هناك يومئذ من الصحابة كتّاب يكتبون ولكنهم قليلون, ثم ان بعضهم لا يملك من الفراغ ما يمكّنه من تسجيل كل ما ينطق به الرسول من حديث.

    لم يكن أبا هريرة كاتبا, ولكنه كان حافظا, وكان يملك هذا الفراغ, أو هذا الفراغ المنشود, فليس له أرض يزرعها ولا تجارة يتبعها!!

    وهو اذا رأى نفسه وقد أسلم متأخرا, عزم على أن يعوّض ما فاته, وذلك بأن يواظب على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى مجالسته..

    ثم انه يعرف من نفسه هذه الموهبة التي أنعم الله بها عليه, وهي ذاكرته الرحبة القوية, والتي زادت مضاء ورحابة وقوة, بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لصاحبها أن يبارك الله له فيها..

    فلماذا اذن لا يكون واحدا من الذين يأخذون على عاتقهم حفظ هذا التراث ونقله لللأجيال..؟؟

    أجل.. هذا دوره الذي تهيئه للقيام به مواهبه, وعليه أن يقوم به في غير توان..



    **



    ولم يكن أبو هريرة ممن يكتبون, ولكنه كان كما ذكرنا سريع الحفظ قوي الذاكرة..

    ولم تكن له أرض يزرعها, ولا تجارة تشغله, ومن ثمّ لم يكن يفارق الرسول في سفر ولا في حضر..

    وهكذا راح يكرّس نفسه ودقة ذاكرته لحفظ أحاديث رسول الله عليه الصلاة والسلام وتوجيهاته..

    فلما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم الى الرفيق الأعلى, راح أبو هريرة يحدث, مما جعل بعض أصحابه يعجبون: أنّى له كل هذه الاحاديث, ومتى سمعها ووعاها..

    ولقد ألقى أبوهريرة رضي الله عنه الضوء على هذه الظاهرة, وكانه يدفع عن نفسه مغبة تلك الشكوك التي ساورت بعض أصحابه فقال:

    " انكم لتقولون أكثر أبو هريرة في حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم..

    وتقولون: ان المهاجرين الذين سبقوه الى الاسلام لا يحدثون هذه الأحاديث..؟؟

    ألا ان أصحابي من المهاجرين, كانت تشغلهم صفقاتهم بالسوق, وان أصحابي من الأنصار كانت تشغلهم أرضهم..

    واني كنت أميرا مسكينا, أكثر مجالسة رسول الله, فأحضر اذا غابوا, وأحفظ اذا نسوا..

    وان النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا يوما فقال: من يبسط رداءه حتى يفرغ من حديثي ثم يقبضه اليه فلا ينسى شيئا كان قد سمعه مني..! فبسطت ثوبي فحدثني ثم ضممته اليّ فوالله ما كنت نسيت شيئا سمعته منه..

    وأيم والله, لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم بشيء أبدا, وهي:

    ( ان الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيّناه للناس في الكتاب, أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون)..".





    هكذا يفسر أبو هريرة سر تفرّده بكثرة الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

    فهو أولا كان متفرغا لصحبة النبي أكثر من غيره..

    وهو ثانيا كان يحمل ذاكرة قوية, باركها الرسول فزادت قوة..

    وهو ثالثا لا يحدّث رغبة في أن يحدّث, بل لأن افشاء هذه الأحاديث مسؤولية دينه وحياته, والا كان كاتما للخير والحق, وكان مفرطا ينتظره جزاء المفرّطين..

    من أجل هذا راح يحدّث ويحدّث, لا يصدّه عن الحديث صادّ, ولا يعتاقه عائق.. حتى قال له عمر يوما وهو أمير المؤمنين:

    " لتتركنّ الحديث عن رسول الله,أو لألحقنك بأرض دوس"..

    أي أرض قومه وأهله..

    على أن هذا النهي من أمير المؤمنين لا يشكل اتهاما لأبي هريرة, بل هو دعم لنظرية كان عمر يتبنّاها ويؤكدها, تلك هي: أن على المسلمين في تلك الفترة بالذات ألا يقرؤوا, وألا يحفظوا شيئا سوى القرآن حتى يقرّ وثبت في الأفئدة والعقول..

    فالقرآن كتاب الله, ودستور الاسلام, وقاموس الدين, وكثرة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, لا سيما في تلك التي أعقبت وفاته عليه الصلاة والسلام, والتي يجمع القرآن خلالها قد تسبب بلبلة لا داعي لها ولا جدوى منها..

    من أجل هذا كان عمر يقول:

    " اشتغلوا بالقرآن, فان القرآن كلام الله"..

    ويقول:

    " أقلوا الرواية عن رسول الله الا فيما يعمل به"..

    وحين أرسل أبو موسى الأشعري الى العراق قال له:

    " انك تأتي قوما لهم في مساجدهم دويّ القرآن كدويّ النحل, فدعهم على ما هم عليه, ولا تشغلهم بالحديث, وأنا شريكك في ذلك"..

    كان القرآن قد جمع بطريقة مضمونة دون أن يتسرب اليه ما ليس منه..

    اما الأحاديث فليس يضمن عمر أن تحرّف أو تزوّر, أو تتخذ سبيل الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم, والنيل من الاسلام..

    وكان أبو هريرة يقدّر وجهة نظر عمر, ولكنه أيضا كان واثقا من نفسه ومن أمانته, وكان لا يريد أن يكتم من الحديث والعلم ما يعتقد أن كتمانه اثم وبوار.

    وهكذا.. لم يكن يجد فرصة لافراغ ما في صدره من حديث سمعه ووعاه الا حدّث وقال..



    **



    على أن هناك سببا هامّا, كان له دور في اثارة المتاعب حول أبي هريرة لكثرة تحدثه وحديثه.

    ذلك أنه كان هناك يومئذ محدّث آخر يحدّث عن الرسول صلى الله عليه وسلم ويكثر ويسرف, ولم يكن المسلمون الأصحاب يطمئنون كثيرا لأحاديثه ذلكم هو كعب الأحبار الذي كان يهوديا وأسلم.



    **



    أراد مروان بن الحكم يوما أن يبلو مقدرة أبي هريرة على الحفظ, فدعاه اليه وأجلسه معه, وطلب منه أن يحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, في حين أجلس كاتبه وراء حجاب, وأمره أن يكتب كل ما يقول أبو هريرة..

    وبعد مرور عام, دعاه مروان بن الحكم مرة أخرى, أخذ يستقرئه نفس الأحاديث التي كان كاتبه قد سطرها, فما نسي أبو هريرة كلمة منها!!

    وكان يقول عن نفسه:

    " ما من أحد من أصحاب رسول الله أكثر حديثا عنه مني, الا ما كان من عبدالله بن عمرو بن العاص, فانه كان يكتب, ولا أكتب"..

    وقال عنه الامام الشافعي أيضا:

    " أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره".

    وقال البخاري رضي الله عنه:

    " روي عن أبو هريرة مدرسة كبيرة يكتب لها البقاء والخلود..

    وكان أبو هريرة رضي الله عنه من العابدين الأوّابين, يتناوب مع زوجته وابنته قيام الليل كله.. فيقوم هو ثلثه, وتقوم زوجته ثلثه, وتقوم ابنته ثلثه. وهكذا لا تمر من الليل ساعة الا وفي بيت أبي هريرة عبادة وذكر وصلاة!!

    وفي سبيل أن يتفرّغ لصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم عانى من قسوة الجوع ما لم يعاني مثله أحد..

    وانه ليحدثنا: كيف كان الجوع يعض أمعاءه فيشدّ على بطنه حجرا ويعتصر كبده بيديه, ويسقط في المسجد وهو يتلوى حتى يظن بعض أصحابه أن به صرعا وما هو بمصروع..!

    ولما أسلم لم يكن يئوده ويضنيه من مشاكل حياته سوى مشكلة واحدة لم يكن رقأ له بسببها جفن..

    كانت هذه المشكلة أمه: فانها يومئذ رفضت أن تسلم..

    ليس ذلك وحسب, بل كانت تؤذي ابنها في رسول الله صلى الله عليه وسلم وتذكره بسوء..

    وذات يوم أسمعت أبا هريرة في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكره, فانفضّ عنها باكيا محزونا, وذهب الى مسجد الرسول..



    ولنصغ اليه وهو يروي لنا بقيّة النبأ:

    ".. فجئت الى رسول الله وأنا أبكي, فقلت: يا رسول الله, كنت أدعو أم أبي هريرة الى الاسلام فتأبى علي, واني دعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره, فادع الله أن يهدي أم أبا هريرةالى الاسلام..

    فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اهد أم أبي هريرة..

    فخرجت أعدو أبشرها بدعاء رسول الله, فلما أتيت الباب اذا هو مجاف, أي مغلق, وسمعت خضخضة ماء, ونادتني يا أبا هريرة مكانك..

    ثم لبست درعها, وعجلت عن خمارها وخرجت وهي تقول: أشهد أن لا اله الا الله, وأِشهد أن محمدا عبده ورسوله..

    فجئت أسعى الى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبكي من الفرح, كما بكيت من الحزن, وقلت: أبشر يا رسول الله, فقد أجاب الله دعوتك..

    قد هدى أم أبي هريرة الى الاسلام..

    ثم قلت يا رسول الله: ادع الله أن يحبّبني وأمي الى المؤمنين والمؤمنات..

    فقال: اللهم حبّب عبيدك هذا وأمه الى كل مؤمن ومؤمنة"..



    **



    وعاش أبو هريرة عابدا, ومجاهدا.. لا يتخلف عن غزوة ولا عن طاعة.

    وفي خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولاه امارة البحرين.

    وعمر كما نعلم شديد المحاسبة لولاته.

    اذا ولّى أحدهم وهو يملك ثوبين, فيجب أن يترك الولاية وهو لا يملك من دنياه سوى ثوبيه.. ويكون من الأفضل أن يتركها وله ثوب واحد..!!!

    أما اذا خرج من الولاية وقد ظهرت عليه أعراض الثراء, فآنئذ لا يفلت من حساب عمر, مهما يكن مصدر ثرائه حلالا مشروعا!



    دنيا أخرى.. ملأها عمر روعة واعجازا..!!

    وحين وليّ أبو هريرة البحرين ادّخر مالا, من مصادره الحلال, وعلم عمر فدعاه الى المدينة..



    ولندع أبو هريرة يروي لنا ما حدث بينهما من حوار سريع:

    " قال لي عمر:

    يا عدو الله وعدو كتابه, أسرقت مال الله..؟؟

    قلت:

    ما أنا بعدو لله ولا عدو لكتابه,.. لكني عدو من عاداهما..

    ولا أنا من يسرق مال الله..!

    قال:

    فمن أين اجتمعت لك عشرة آلاف..؟؟

    قلت:

    خيل لي تناسلت, وعطايا تلاحقت..

    قال عمر: فادفعها الى بيت مال المسلمين"..!!

    ودفع أبو هريرة المال الى عمر ثم رفع يديه الى السماء وقال:

    اللهم اغفر لأمير المؤمنين"..



    وبعد حين دعا عمر أبا هريرة, وعرض عليه الولاية من جديد, فأباها واعتذر عنها..

    قال له عمر: ولماذا؟

    قال أبو هريرة:

    حتى لا يشتم عرضي, ويؤخذ مالي, ويضرب ظهري..

    ثم قال:

    وأخاف أن أقضي بغير علم

    وأقول بغير حلم..



    **



    وذات يوم اشتد شوقه الى لقاء الله..

    وبينما كان عوّاده يدعون له بالشفاء من مرضه, كان هو يلحّ على الله قائلا:

    " اللهم اني أحب لقاءك, فأحب لقائي"..

    وعن ثماني وسبعين سنة مات في العام التاسع والخمسين للهجرة.

    وبين ساكني البقيع الأبرار تبوأ جثمانه الوديع مكانا مباركا..

    وبينما كان مشيعوه عائدين من جنازته, كانت ألسنتهم ترتل الكثير من الأحاديث التي حفظها لهم عن رسولهم الكريم.

    ولعل واحدا من المسلمين الجدد كان يميل على صاحبه ويسأله:

    لماذا كنّى شيخنا الراحل بأبي هريرة..؟؟



    فيجيبه صاحبه وهو الخبير بالأمر:

    لقد كان اسمه في الجاهلية عبد شمس, ولما أسلم سمّاه الرسول عبدالرحمن.. ولقد كان عطوفا على الحيوان, وكانت له هرة, يطعمها, ويحملها, وينظفها, ويؤويها.. وكانت تلازمه كظله..

    وهكذا دعي: أبا هريرة رضي الله عنه وأرضاه..

  7. #37
    تاريخ التسجيل : Dec 2006
    رقم العضوية : 20624



    ---((( البراء بن مالك )))---

    الله, والجنة



    هو ثاني أخوين عاشا في الله, وأعطيا رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدا نما وأزهر مع الأيام..

    أما أولهما فهو أنس بن مالك خادم رسول الله عليه السلام.

    أخذته أمه أم سليم الى الرسول وعمره يوم ذاك عشر سنين وقالت:

    "يا رسول الله..

    هذا أنس غلامك يخدمك, فادع الله له"..

    فقبّله رسول الله بين عينيه ودعا له دعوة ظلت تحدو عمره الطويل نحو الخير والبركة..

    دعا له لرسول فقال:

    " اللهم أكثر ماله, وولده, وبارك له, وأدخله الجنة"..

    فعاش تسعا وتسعين سنة, ورزق من البنين والحفدة كثيرين, كما أعطاه الله فيما أعطاه من رزق, بستانا رحبا ممرعا, كان يحمل الفاكهة في العام مرتين..!!



    **



    وثاني الأخوين, هو البراء بن مالك..

    عاش حياته العظيمة المقدامة, وشعاره:

    " الله, والجنة"..

    ومن كان يراه, وهو يقاتل في سبيل الله, كان يرى عجبا يفوق العجب..

    فلم يكن البراء حين يجاهد المشركين بسيفه ممن يبحثون عن النصر, وان يكن النصر آنئذ أجلّ غاية.. انما كان يبحث عن الشهادة..

    كانت كل أمانيه, أن يموت شهيدا, ويقضي نحبه فوق أرض معركة مجيدة من معارك الاسلام والحق..

    من أجل هذا, لم يتخلف عن مشهد ولا غزوة..

    وذات يوم ذهب اخوانه يعودونه, فقرأ وجوههم ثم قال:

    " لعلكم ترهبون أن أموت على فراشي..

    لا والله, لن يحرمني ربي الشهادة"..!!

    ولقد صدّق الله ظنه فيه, فلم يمت البراء على فراشه, بل مات شهيدا في معركة من أروع معارك الاسلام..!!



    **



    ولقد كانت بطولة البراء يوم اليمامة خليقة به.. خليقة بالبطل الذي كان عمر بن الخطاب يوصي ألا يكون قائدا أبدا, لأن جسارته واقدامه, وبحثه عن الموت.. كل هذا يجعل قيادته لغيره من المقاتلين مخاطرة تشبه الهلاك..!!

    وقف البراء يوم اليمامة وجيوش الاسلام تحت امرة خالد تتهيأ للنزال, وقف يتلمظ مستبطئا تلك اللحظات التي تمرّ كأنها السنين, قبل أن يصدر القائد أمره بالزحف..

    وعيناه الثاقبتان تتحركان في سرعة ونفاذ فوق أرض المعركة كلها, كأنهما تبحثان عن أصلح مكان لمصرع البطل..!!

    أجل فما كان يشغله في دنياه كلها غير هذه الغاية..

    حصاد كثير يتساقط من المشركين دعاة الظلام والباطل بحدّ سيفه الماحق..

    ثم ضربة تواتيه في نهاية المعركة من يد مشركة, يميل على أثرها جسده الى الارض, على حين تأخذ روحه طريقها الى الملأ الأعلى في عرس الشهداء, وأعياد المباركين..!!



    **



    ونادى خالد: الله أكبر, فانطلقت الصفوف المرصوصة الى مقاديرها, وانطلق معها عاشق الموت البراء بن مالك..

    وراح يجندل أتباع مسيلمة الكذاب بسيفه.. وهم يتساقطون كأوراق الخريف تحت وميض بأسه..

    لم يكن جيش مسيلمة هزيلا, ولا قليلا.. بل كان أخطر جيوش الردة جميعا..

    وكان بأعداده, وعتاده, واستماتة مقاتليه, خطرا يفوق كل خطر..

    ولقد أجابوا على هجوم المسلمين شيء من الجزع.

    وانطلق الزعماء والخطباء يلقون من فوق صهوات جيادهم كلمات التثبيت. ويذكرون بوعد الله..

    وكان البراء بن مالك جميل الصوت عاليه..

    وناداه القائد خالد تكلم يا براء..

    فصاح البراء بكلمات تناهت في الجزالة, والدّلالة, القوة..

    تلك هي:

    " يا أهل المدينة..

    لا مدينة لكم اليوم..

    انما هو الله والجنة"..

    كلمات تدل على روح قائلها وتنبئ بخصاله.

    أجل..

    انما هو الله, والجنة..!!

    وفي هذا الموطن, لا ينبغي أن تدور الخواطر حول شيء آخر..

    حتى المدينة, عاصمة الاسلام, والبلد الذي خلفوا فيه ديارهم ونساءهم وأولادهم, لا ينبغي أن يفكروا فيها, لأنهم اذا هزموا اليوم, فلن تكون هنلك مدينة..

    وسرت كلمات البراء مثل.. مثل ماذا..؟

    ان أي تشبيه سيكون ظلما لحقيقة أثرها وتأثيرها..

    فلنقل: سرت كلمات البراء وكفى..

    ومضى وقت وجيز عادت بعده المعركة الى نهجها الأول..

    المسلمون يتقدمون, يسبقهم نصر مؤزر.

    والمشركون يتساقطون في حضيض هزيمة منكرة..

    والبراء هناك مع اخوانه يسيرون براية محمد صلى الله عليه وسلم الى موعدها العظيم..

    واندفع المشركون الى وراء هاربين, واحتموا بحديقة كبيرة دخلوها ولاذوا بها..

    وبردت المعركة في دماء المسلمين, وبدا أن في الامان تغير مصيرها بهذه الحيلة التي لجأ اليها أتباع مسيلمة وجيشه..

    وهنا علا البراء ربوة عالية وصاح:

    " يا معشر المسلمين..

    احملوني وألقوني عليهم في الحديقة"..

    ألم أقل لكم انه لا يبحث عن النصر بل عن الشهادة..!!

    ولقد تصوّر في هذه الخطة خير ختام لحياته, وخير صورة لمماته..!!

    فهو حين يقذف به الى الحديقة, يفتح للمسلمين بابها, وفي نفس الوقت كذلك تكون أبواب الجنة تأخذ زينتها وتتفتح لاستقبال عرس جديد ومجيد..!!



    **



    ولم ينتظر البراء أن يحمله قومه ويقذفوا به, فاعتلى هو الجدار, وألقى بنفسه داخل الحديقة وفتح الباب, واقتحمته جيوش الاسلام..

    ولكن حلم البراء لم يتحقق, فلا سيوف المشركين اغتالته, ولا هو لقي المصرع الذي كان يمني به نفسه..

    وصدق أبو بكر رضي الله عنه:

    " احرص على الموت..

    توهب لك الحياة"..!!



    صحيح أن جسد البطل تلقى يومئذ من سيوف المشركين بضعا وثمانين ضربة, أثخنته ببضع وثمانين جراحة, حتى لقد ظل بعد المعركة شهرا كاملا, يشرف خالد بن الوليد نفسه على تمريضه..

    ولكن كل هذا الذي أصابه كان دون غايته وما يتمنى..

    بيد أن ذلك لا يحمل البراء على اليأس.. فغدا تجيء معركة, ومعركة, ومعركة..

    ولقد تنبأ له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه مستجاب الدعوة..

    فليس عليه الا أن يدعو ربه دائما أن يرزقه الشهادة, ثم عليه ألا يعجل, فلكل أجل كتاب..!!



    ويبرأ البراء من جراحات يوم اليمامة..

    وينطلق مع جيوش الاسلام التي ذهبت تشيّع قوى الظلام الى مصارعها.. هناك حيث تقوم امبراطوريتان خرعتان فانيتان, الروم والفرس, تحتلان بجيوشهما الباغية بلاد الله, وتستعبدان عباده..

    ويضرب البراء بسيفه, ومكان كل ضربة يقوم جدار شاهق في بناء العالم الجديد الذي ينمو تحت راية الاسلام نموّا سريعا كالنهار المشرق..



    **



    وفي احدى حروب العراق لجأ الفرس في قتالهم الى كل وحشية دنيئة يستطيعونها..

    فاستعملوا كلاليب مثبتة في أطراف سلاسل محمأة بالنار, يلقونها من حصونهم, فتخطف من تناله من المسلمين الذين لا يستطيعون منها فكاكا..

    وكان البراء وأخوه العظيم أنس بن مالك قد وكل اليهما مع جماعة من المسلمين أمر واحد من تلك الحصون..

    ولكن أحد هذه الكلاليب سقط فجأة, فتعلق بأنس ولم يستطع أنس أن يخلص نفسه, اذ كانت تتوهج لهبا ونارا..

    وأبصرالبراء المشهد اسرع نحو أخيه الذي كانت السلسلة المحمأة تصعد به على سطح جدار الحصن.. وقبض على السلسلة بيديه وراح يعالجها في بأس شديد حتى قصمها وقطعها.. ونجا أنس وألقى البراء ومن معه نظرة على كفيه فلم يجدوهما مكانهما..!!

    لقد ذهب كل ما فيهما من لحم, وبقي هيكلهما العظمي مسمّرا محترقا..!!

    وقضى البطل فترة أخرى في علاج بطيء حتى بريء..



    **



    أما آن لعاشق الموت أن يبلغ غايته..؟؟

    بلى آن..!!

    وهاهي ذي موقعة تستر تجيء ليلاقي المسلمون فيها جيوش فارس

    ولتكون للبراء عيدا أي عيد..



    **



    احتشد أهل الأهواز, والفرس في جيش كثيف ليناجزوا المسلمين..

    وكتب امير المؤمنين عمر بن الخطاب الى سعد بن أبي وقاص بالكوفة ليرسل الى الأهواز جيشا..

    وكتب الى أبي موسى الأشعري بالبصرة ليرسل الى الأهواز جيشا, قائلا له في رسالته:

    " اجعل امير الجند سهيل بن عديّ..

    وليكن معه البراء بن مالك"..





    والتقى القادمون من الكوفة بالقادمين من البصرة ليواجهوا جيش الأهواز وجيش الفرس في معركة ضارية..

    كان الاخوان العظيمان بين الجنود المؤمنين.. أنس بن مالك, والبراء بن مالك..

    وبدأت الحرب بالمبارزة, فصرع البراء وحده مائة مبارز من الفرس..

    ثم التحمت الجيوش, وراح القتلى يتساقطون من الفريقين كليهما في كثرة كاثرة..

    واقترب بعض الصحابة من البراء, والقتال دائر, ونادوه قائلين:

    " أتذكر يا براء قول الرسول عنك: ربّ أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له, لو أقسم على الله لأبرّه, منهم البراء بن مالك..؟

    يا براء أقسم على ربك, ليهزمهم وينصرنا"..

    ورفع البراء ذراعيه الى السماء ضارعا داعيا:

    " اللهم امنحنا أكنافهم..

    اللهم اهزمهم..

    وانصرنا عليهم..

    وألحقني اليوم بنبيّك"..

    ألقى على جبين أخيه أنس الذي كان يقاتل قريبا منه.. نظرة طويلة, كأنه يودّعه..

    وانقذف المسلمون في استبسال لم تألفه الدنيا من سواهم..

    ونصروا نصرا مبينا.



    **



    ووسط شهداء المعركة, كان هناك البراء تعلو وجهه ابتسامة هانئة كضوء الفجر.. وتقبض يمناه على حثيّة من تراب مضمّخة بدمه الطهور..

    لقد بلغ المسافر داره..

    وأنهى مع اخوانه الشهداء رحلة عمر جليل وعظيم, ونودوا:

    ( أن تلكم الجنة, أورثتموها بما كنتم تعملون)....

  8. #38
    تاريخ التسجيل : Dec 2006
    رقم العضوية : 20624



    ---((( عتبة بن غزوان )))---



    غدا ترون الأمراء من بعدي



    من بين المسلمين السابقين, والمهاجرين الأولين الى الحبشة, فالمدينة..

    ومن بين الرماة الأفذاذ الذين أبلوا في سبيل الله بلاء حسنا, هذا الرجل الفارع الطول, المشرق الوجه, المخبت القلب عتبة بن غزوان...



    **



    كان سابع سبعة سبقوا الى الاسلام, ومدوا أيمانهم الى يمين الرسول صلى الله عليه وسلم, مبايعين ومتحدّين قريشا بكل ما معها من بأس وقدرة على الانتقام..

    وفي الأيام الأولى للدعوة.وأيام العسرة والهول, صمد عتبة بن غزوان, مع اخوانه ذلك الصمود الجليل الذي صار فيما بعد زادا للضمير الانساني يتغذى به وينمو على مر الأزمان..

    ولما أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام أصحابه بالهجرة الى الحبشة, خرج عتبة مع المهاجرين..

    بيد أن شوقه الى النبي صلى الله عليه وسلم لم يدعه يستقر هناك, فسرعان ما طوى البرّ والبحر عائدا الى مكة, حيث لبث فيها بجوار الرسول حتى جاء ميقات الهجرة الى المدينة, فهاجر عتبة مع المسلمين..

    ومنذ بدأت قريش تحرشاتها فحروبها, وعتبة حامل رماحه ونباله, يرمي بها في أستاذية خارقة, ويسهم مع اخوانه المؤمنين في هدم العالم القديم بكل أوثانه وبهتانه..

    ولم يضع سلاحه يوم رحل عنهم الرسول الكريم الى الرفيق الأعلى, بل ظل يضرب في الأرض, وكان له مع جيوش الفرس جهاد عظيم..



    **



    أرسله أمير المؤمنين عمر الى الأبلّة ليفتحها, وليطهر أرضها من الفرس الذين كانوا يتخذونها نقطة وثوب خطرة على قوات الاسلام الزاحفة عبر بلاد الامبراطورية الفارسية, تستخلص منها بلاد الله وعباده..

    وقال له عمر وهو يودّعه وجيشه:

    " انطلق أنت ومن معك, حتى تأتوا أقصى بلاد العرب, وأدنى بلاد العجم..

    وسر على بركة الله ويمنه..

    وادع الى الله من أجابك.

    ومن أبى, فالجزية..

    والا فالسيف في غير هوادة..

    كابد العدو, واتق الله ربك"..



    **



    ومضى عتبة على رأس جيشه الذي لم يكن كبيرا, حتى قدم الأبلّة..

    وكان الفرس يحشدون بها جيشا من أقوى جيوشهم..

    ونظم عتبة قواته, ووقف في مقدمتها, حاملا رمحه بيده التي لم يعرف الناس لها زلة منذ عرفت الرمي..!!

    وصاح في جنده:

    " الله أكبر, صدق وعده"..

    وكأنه كان يقرأ غيبا قريبا, فما هي الا جولات ميمونة استسلمت بعدها الأبلّة وطهرت أرضها من جنود الفرس, وتحرر أهلها من طغيان طالما أصلاهم سعيرا.. وصدق الله العظيم وعده..!!



    **



    اختطّ عتبة مكان الأبلّة مدينة البصرة, وعمّرها وبنى مسجدها العظيم..

    وأراد أن يغادر البلاد عائدا الى المدينة, هاربا من الامارة, لكن أمير المؤمنين أمره بالبقاء..

    ولبث عتبة مكانه يصلي بالناس, ويفقههم في دينهم, ويحكم بينهم بالعدل, ويضرب لهم أروع المثل في الزهد والورع والبساطة...

    ووقف يحارب الترف والسرف بكل قواه حتى ضجره الذين كانوا تستهويهم المناعم والشهوات..

    هنالك وقف عتبة فيهم خطيبا فقال:

    " والله, لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سابع سبعة ومالنا طعام الا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا..

    ولقد رزقت يوما بردة, فشققتها نصفين, أعطيت نصفها سعد بن مالك, ولبست نصفها الآخر"..



    **



    كان عتبة يخاف الدنيا على دينه أشد الخوف, وكان يخافها على المسلمين, فراح يحملهم على القناعة والشظف.

    وحاول الكثيرون أن يحوّلوه عن نهجه, ويثيروا في نفسه الشعور بالامارة, وبما للامارة من حق, لا سيما في تلك البلاد التي لم تتعود من قبل أمراء من هذا الطراز المتقشف الزاهد, والتي تعود أهلها احترام المظاهر المتعالية المزهوّة.. فكان عتبة يجيبهم قائلا:

    " اني أعوذ بالله أن أكون في دنياكم عظيما, وعند الله صغيرا"..!

    ولما رأى الضيق على وجوه الناس بسبب صرامته في حملهم على الجادّة والقناعة قال لهم:

    " غدا ترون الأمراء من بعدي"..

    وجاء موسم الحج, فاستخلف على البصرة أحد اخوانه وخرج حاجا. ولما قضى حجه, سافر الى المدينة, وهناك سأل أمير المؤمنين أن يعفيه الامارة..

    لكن عمر لم يكن يفرّط في هذا الطراز الجليل من الزاهدين الهاربين مما يسيل له لعاب البشر جميعا.

    وكان يقول لهم:

    " تضعون أماناتكم فوق عنقي..

    ثم تتركوني وحدي..؟

    لا والله لا أعفكيم أبدا"..!!

    وهكذا قال لعتبة بن غزوان..

    ولما لم يكن في وسع عتبة الا الطاعة, فقد استقبل راحلته ليركبها راجعا الى البصرة.

    لكنه قبل أن يعلو ظهرها, استقبل القبلة, ورفع كفّيه الضارعتين الى السماء ودعا ربه عز وجل ألا يردّه الى البصرة, ولا الى الامارة أبدا..

    واستجيب دعاؤه..

    فبينما هو في طريقه الى ولايته أدركه الموت..

    وفاضت روحه الى بارئها, مغتبطة بما بذلت وأعطت..

    وبما زهدت وعفت..

    وبما أتم الله عليها من نعمة..

    وبما هيأ لها من ثواب...

  9. #39
    تاريخ التسجيل : Dec 2006
    رقم العضوية : 20624



    ---((( ثابت بن قيس )))---



    خطيب رسول الله



    كان حسّان بن ثابت شاعر رسول الله والاسلام..

    وكان ثابت خطيب رسول الله والاسلام..

    وكانت الكلمات تخرج من فمه قوية, صادعة, جامعة رائعة..

    وفي عام الوفود, وفد على المدينة وفد بني تميم وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:

    " جئنا نفاخرك, فأذن لشاعرنا وخطيبنا"..

    فابتسم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال لهم:

    " قد أذنت لخطيبكم, فليقل"..

    وقام خطيبهم عطارد بن حاجب ووقف يزهو بمفاخر قومه..

    ولما آذن بانتهاء, قال النبي صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس: قم فأجبه..

    ونهض ثابت فقال:

    " الحمد لله, الذي في السموات والأرض خلقه, قضى فيهنّ أمره, ووسع كرسيّه علمه, ولم يك شيء قط الا من فضله..

    ثم كان من قدرته أن جعلنا أئمة. واصطفى من خير خلقه رسولا.. أكرمهم نسبا. وأصدقهم حديثا. وأفضلهم حسبا, فأنزل عليه كتابه, وائتمنه على خلقه, فكان خيرة الله من العالمين..

    ثم دعا الناس الى الايمان به, فآمن به المهاجرون من قومه وذوي رحمه.. أكرم الناس أحسابا, وخيرهم فعالا..

    ثم كنا نحن الأنصار أول الخلق اجابة..

    فنحن أنصار الله, ووزراء رسوله"..



    **



    شهد ثابت بن قيس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة أحد, والمشاهد بعدها.

    وكانت فدائيته من طراز عجيب.. جد عجيب..!!

    في حروب الردّة, كان في الطليعة دائما, يحمل راية الأنصار, ويضرب بسيف لا يكبو, ولا ينبو..

    وفي موقعة اليمامة, التي سبق الحديث عنها أكثر من مرة, رأى ثابت وقع الهجوم الخاطف لذي شنّه جيش مسيلمة الكذاب على المسلمين أول المعركة, فصاح بصوته النذير الجهير:

    " والله, ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم"..

    ثم ذهب غير بعيد, وعاد وقد تحنّط, ولبس أكفانه, وصاح مرة أخرى:

    " اني أبرأ اليك مما جاء به هؤلاء..

    يعني جيش مسيلمة..

    وأعتذر اليك مما صاع هؤلاء..

    يعني تراخي المسلمين في القتال"..

    وانضم اليه سالم مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان يحمل راية المهاجرين..

    وحفر الاثنان لنفسيهما حفرة عميقة ثم نزلا فيها قائمين, وأهالا الرمال عليهما حتى غطت وسط كل منهما..

    وهكذا وقفا..طودين شامخين, نصف كل منهما غائص في الرمال مثبت في أعماق الحفرة.. في حين نصفهما الأعلى, صدرهما وجبهتهما وذراعهما يستقبلان جيوش الوثنية والكذب..

    وراحا يضربان بسيفهما كل من يقترب منهما من جيش مسيلمة حتى استشهدا في مكانهما, ومالت شمس كل منهما للغروب..!!

    وكان مشهدهما رضي الله عنهما هذا أعظم صيحة أسهمت في ردّ المسلمين الى مواقعهم, حيث جعلوا من جيش مسيلمة الكذاب ترابا تطؤه الأقدام..!!



    **



    وثابت بن قيس.. هذا الذي تفوّق خطيبا, وتفوّق محاربا كان يحمل نفسا أوابة, وقلبا خاشعا مخبتا, وكان من أكثر المسلمين وجلا من الله, وحياء منه..



    **



    لما نزلت الآية الكريمة:

    ( ان الله لا يحب كل مختال فخور)..

    أغلق ثابت باب داره, وجلس يبكي..وطال مكثه على هذه الحال, حتى نمى الى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره, فدعاه وسأله.

    فقال ثابت:

    " يا رسول الله, اني أحب الثوب الجميل, والنعل الجميل, وقد خشيت أن أكون بهذا من المختالين"..

    فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضحك راضيا:

    " انك لست منهم..

    بل تعيش بخير..

    وتموت بخير..

    وتدخل الجنة".

    ولما نزل قول الله تعالى:

    ( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي..

    ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض, أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون)..

    أغلق ثابت عليه داره, وطفق يبكي..

    وافتقده الرسول فسأل عنه, ثم أرسل من يدعوه...

    وجاء ثابت..

    وسأله الرسول عن سببب غيابه, فأجابه:

    " اني امرؤ جهير الصوت..

    وقد كنت أرفع صوتي فوق صوتك يا رسول الله..

    واذن فقد حبط عملي, وأنا من أهل النار"..!!

    وأجابه الرسول عليه الصلاة والسلام:

    " انك لست منهم..

    بل تعيش حميدا..

    وتقتل شهيدا..

    ويدخلك الله الجنة".



    **



    بقي في قصة ثابت واقعة, قد لا يستريح اليها أولئك الذين حصروا تفكيرهم وشعورهم ورؤاهم داخل عالمهم الماديّ الضيّق الذي يلمسونه, أو يبصرونه, أو يشمّونه..!

    ومع هذا, فالواقعة صحيحة, وتفسيرها مبين وميّسر لكل من يستخدم مع البصر, البصيرة..

    بعد أن استشهد ثابت في المعركة, مرّ به واحد من المسلمين الذين كانوا حديثي عهد بالاسلام ورأى على جثمان ثابت درعه الثمينة, فظن أن من حقه أن يأخذها لنفسه, فأخذها..

    ولندع راوي الواقعة يرويها بنفسه:

    ".. وبينما رجل من المسلمين نائم أتاه ثابت في منامه.

    فقال له: اني أوصيك بوصية, فاياك أن تقول: هذا حلم فتضيعه.

    اني لما استشهدت بالأمس, مرّ بي رجل من المسلمين.

    فأخذ درعي..

    وان منزله في أقصى الناس, وفرسه يستنّ في طوله, أي في لجامه وشكيمته.

    وقد كفأ على الدرع برمة, وفوق البرمة رحل..

    فأت خالدا, فمره أن يبعث فيأخذها..

    فاذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله أبي بكر, فقل له: ان

    عليّ من الدين كذا كذا..

    فليقم بسداده..

    فلما استيقظ الرجل من نومه, أتى خالد بن الوليد, فقصّ عليه رؤياه..

    فأرسل خالد من يأتي بالدرع, فوجدها كما وصف ثابت تماما..

    ولما رجع المسلمون الى المدينة, قصّ المسلم على الخليفة الرؤيا, فأنجز وصيّة ثابت..

    وليس في الاسلام وصيّة ميّت أنجزت بعد موته على هذا النحو, سوى وصيّة ثابت بن قيس..



    حقا ان الانسان لسرّ كبير..

    ( ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون).

  10. #40
    تاريخ التسجيل : Dec 2006
    رقم العضوية : 20624



    ---((( أسيد بن خضير )))---



    بطل يوم السقيفة



    ورث المكارم كابرا عن كابر..

    فأبوه خضير الكتائب كان زعيم الأوس, وكان واحدا من كبار أشراف العرب في الجاهلية, ومقاتليهم الأشداء..

    وفيه يقول الشاعر:

    لو أن المنايا حدن عن ذي مهابة

    لهبن خضيرا يوم غلّق واقما

    يطوف به, حتى اذا الليل جنّه

    تبوأ منه مقعدا متناغما



    وورث أسيد عن أبيه مكانته, وشجاعته وجوده, فكان قبل أن يسلم, واحدا من زعماء المدينة وأشراف العرب, ورماتها الأفذاذ..

    فلما اصطفاه الاسلام, وهدي الى صراط العزيز الحميد, تناهى عزه.

    وتسامى شرفه, يوم أخذ مكانه, وأخذ واحدا من انصار الله وأنصار رسوله, ومن السابقين الى الاسلام العظيم..



    **



    ولقد كان اسلامه يوم أسلم سريعا, وحاسما وشريفا..

    فعندما أرسل الرسول عليه السلام مصعب بن عمير الى المدينة ليعلم ويفقه المسلمين من الأنصار الذين بايعوا النبي عليه السلام عل الاسلام بيعة العقبة الأولى, وليدعو غيرهم الى دين الله.

    يومئذ, جلس أسيد بن خضير, وسعد بن معاذ, وكانا زعيمي قومما, يتشاوران في أمر هذا الغريب الذي جاء من مكة يسفّه دينهما, ويدعو الى دين جديد لا يعرفونه..

    وقال سعد لأسيد:" انطلق الى هذا الرجل فازجره"..

    وحمل أسيد حربته, وأغذ السير الى حيث كان مصعب في ضيافة أسعد بن زرارة من زعماء المدينة الذين سبقوا الى الاسلام.

    وعند مجلس مصعب وأسعد بن زرارة رأى أسيد جمهرة من الناس تصغي في اهتمام للكلمات الرشيدة التي يدعوهم بها الى الله, مصعب بن عمير..

    وفجأهم أسيد بغضبه وثورته..

    وقال له مصعب:

    " هل لك في أن تجلس فتسمع.. فان رضيت أمرنا قبلته, ون كرهته, كففنا عنك ما تكره"..؟؟



    **



    كان أسيد رجلا.. وكان مستنير العقل ذكيّ القلب حتى لقبه أهل المدينة بالكامل.. وهو لقب كان يحمله أبوه من قبله..

    فلما رأى مصعبا يحتكم به الى المنطق والعقل, غرس حربته في الأرض, وقال لمصعب:

    لقد أنصفت: هات ما عندك..

    وراح مصعب يقرأ عليه من القرآن, ويفسّر له دعوة الدين الجديد. الدين الحق الذي أمر محمد عليه الصلاة والسلام بتبليغه ونشر رايته.

    ويقول الذين حضروا هذا المجلس:

    " والله لقد عرفنا في وجه أسيد الاسلام قبل أن يتكلم..

    عرفناه في اشراقه وتسهّله"..!!



    **



    لم يكد مصعب ينتهي من حديثه حتى صاح أسيد مبهورا:

    " ما أحسن هذا الكلام وأجمله..

    كيف تصنعون اذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين".؟

    قال له مصعب:

    " تطهر بدنك, وثوبك, وتشهد شهادة الحق, ثم تصلي"..

    ان شخصية أسيد شخصية مستقيمة قوية مستقيمة وناصعة, وهي اذ تعرف طريقها , لا تتردد لحظة أمام ارادتها الحازمة..

    ومن ثمّ, قام أسيد في غير ارجاء ولا ابطاء ليستقبل الدين الذي انفتح له قلبه, وأشرقت به روحه, فاغتسل وتطهر, ثم سجد لله رب العالمين, معلنا اسلامه, مودّعا أيام وثنيّته, وجاهليته..!!

    كان على أسيد أن يعود لسعد بن معاذ, لينقل اليه أخبار المهمة التي كلفه بها.. مهمة زجر مصعب بن عمير واخراجه..

    وعاد الى سعد..

    وما كاد يقترب من مجلسه, حتى قال سعد لمن حوله:

    " أقسم لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به".!!

    أجل..

    لقد ذهب بوجه طافح بالمرارة, والغضب والتحدي..

    وعاد بوجه تغشاه السكينة والرحمة والنور..!!



    **



    وقرر أسيد أن يستخدم ذكاءه قليلا..

    انه يعرف أن سعد بن معاذ مثله تماما في صفاء جوهره ومضاء عزمه, وسلامة تفكيره وتقديره..

    ويعلم أنه ليس بينه وبين الاسلام سوى أن يسمع ما سمع هو من كلام الله, الذي يحسن ترتيله وتفسيره سفير الرسول اليهم مصعب بن عمير..

    لكنه لو قال لسعد: اني أسلمت, فقم وأسلم, لكانت مجابهة غير مأمونة العاقبة..

    اذن فعليه أن يثير حميّة سعد بطريقة تدفعه الى مجلس مصعب حتى يسمع ويرى..

    فكيف السبيل لهذا..؟

    كان مصعب كما ذكرنا من قبل ينزل ضيفا على أسعد بن زرارة..

    وأسعد بن زرارة هو ابن خالة سعد بن معاذ..

    هنالك قال أسيد لسعد:

    " لقد حدّثت أن بني الحارثة قد خرجوا الى أسعد بن زرارة ليقتلوه, وهم يعلمون أنه ابن خالتك"..

    وقام سعد, تقوده الحميّة والغضب, وأخذ الحربة, وسار مسرعا الى حيث أسعد ومصعب, ومن معهما من المسلمين..

    ولما اقترب من المجلس لم يجد ضوضاء ولا لغطا, وانما هي السكينة تغشى جماعة يتوسطهم مصعب بن عمير, يتلو آيات الله في خشوع, وهم يصغون اليه في اهتمام عظيم..

    هنالك أدرك الحيلة التي نسجها له أسيد لكي يحمله على السعي الى هذا المجلس, والقاء السمع لما يقوله سفير الاسلام مصعب بن عمير.

    ولقد صدقت فراسة أسيد في صاحبه, فما كاد سعد يسمع حتى شرح الله صدره للاسلام, وأخذ مكانه في سرعة الضوء بين المؤمنين السابقين..!!



    **



    كان أسيد يحمل في قلبه ايمانا وثيقا ومضيئا..

    وكان ايمانه يفيء عليه من الأناة والحلم وسلامة التقدير ما يجعله أهلا للثقة دوما..

    وفي غزوة بني المصطلق تحركت مغايظ عبدالله بن أبيّ فقال لمن حوله من أهل المدينة:

    " لقد أحللتموهم بلادكم, وقاسمتموهم أموالكم..

    أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا الى غير دياركم..

    أما والله لئن رجعنا الى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل"..

    سمع الصحابي الجليل زيد بن الأرقم هذه الكلمات, بل هذه السموم المنافقة المسعورة, فكان حقا عليه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم..

    وتألم رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا, وقابله أسيد فقال له النبي عليه السلام:

    أوما بلغك ما قال صاحبكم..؟؟

    قال أسيد:

    وأيّ صاحب يا رسول الله..؟؟

    قال الرسول:

    عبدالله بن أبيّ!!

    قال أسيد:

    وماذا قال..؟؟

    قال الرسول:

    زعم انه ان رجع الى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل.

    قال أسيد:

    فأنت والله, يا رسول الله, تخرجه منها ان شاء الله.. هو والله الذليل, وأنت العزيز..

    ثم قال أسيد:

    " يا رسول الله ارفق به, فوالله لقد جاءنا الله بك وان قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه على المدينة ملكا, فهو يرى أن الاسلام قد سلبه ملكا"..

    بهذا التفكير الهادئ العميق المتزن الواضح, كان أسيد دائما يعالج القضايا ببديهة حاضرة وثاقبة..





    وفي يوم السقيفة, اثر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أعلن فريق من الأنصار, وعلى رأسهم سعد بن عبادة أحقيتهم بالخلافة, وطال الحوار, واحتدمت المناقشة, كان موقف أسيد, وهو كما عرفنا زعيم أنصاري كبير, كان موقفه فعالا في حسم الموقف, وكانت كلماته كفلق الصبح في تحديد الاتجاهه..

    وقف أسيد فقال مخاطبا فريق الأنصار من قومه:

    " تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين..

    فخليفته اذن ينبغي أن يكون من المهاجرين..

    ولقد كنا أنصار رسول الله..

    وعلينا اليوم أن نكون أنصار خليفته"..

    وكانت كلماته, بردا, وسلاما..



    **



    ولقد عاش أسيد بن خضير رضي الله عنه عابدا, قانتا, باذلا روحه وماله في سبيل الخير, جاعلا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار نصب عينيه:

    " اصبروا.. حتى تلقوني على الحوض"..

    ولقد كان لدينه وخلقه موضع تكريم الصدّيق حبّه, كذلك كانت له نفس المكانة والمنزلة في قلب أمير المؤمنين عمر, وفي أفئدة الصحابة جميعا.

    وكان الاستماع لصوته وهو يرتل القرآن احدى المغانم الكبرى التي يحرص الأصحاب عليها..

    ذلك الصوت الخاشع الباهر المنير الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أن الملائكة دنت من صاحبه ذات ليلة لسماعه..

    وفي شهر شعبان عام عشرين للهجرة, مات أسيد..

    وأبى أمير المؤمنين عمر الا أن يحمل نعشه فوق كتفه..

    وتحت ثرى البقيع وارى الأصحاب جثمان مؤمن عظيم..

    وعادوا الى المدينة وهم يستذكرون مناقبه ويرددون قول الرسول الكريم عنه:

    " نعم الرجل.. أسيد بن خضير"..

  11. #41
    تاريخ التسجيل : Dec 2006
    رقم العضوية : 20624



    ---((( عبدالرحمن بن عوف )))---



    ما يبكيك يا أبا محمد



    ذات يوم, والمدينة ساكنة هادئة, أخذ يقترب من مشارفها نقع كثيف, راح يتعالى ويتراكم حتى كاد يغطي الأفق.

    ودفعت الريح هذه الأمواج من الغبار المتصاعد من رمال الصحراء الناعمة, فاندفعت تقترب من أبواب المدينة, وتهبّ هبوبا قويا على مسالكها.

    وحسبها الناس عاصفة تكنس الرمال وتذروها, لكنهم سرعان ما سمعوا وراء ستار الغبار ضجة تنبئ عن قافلة كبيرة مديدة.

    ولم يمض وقت غير وجيز, حتى كانت سبعمائة راحلة موقرة الأحمال تزحم شوارع المدينة وترجّها رجّا, ونادى الناس بعضهم بعضا ليروا مشهدها الحافل, وليستبشروا ويفرحوا بما تحمله من خير ورزق..



    **



    وسألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها, وقد ترتمت الى سمعها أصداء القافلة الزاحفة..

    سألت: ما هذا الذي يحدث في المدينة..؟

    وأجيبت: انها قافلة لعبدالرحمن بن عوف جاءت من الشام تحمل تجارة له..

    قالت أم المؤمنين:

    قافلة تحدث كل هذه الرّجّة..؟!

    أجل يا ام المؤمنين.. انها سبعمائة راحلة..!!

    وهزت أم المؤمنين رأسها, وأرسلت نظراتها الثاقبة بعيدا, كأنها تبحث عن ذكرى مشهد رأته, أو حديث سمعته..

    "أما اني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

    رأيت عبدالرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا"..



    **



    عبدالرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا..؟

    ولماذا لا يدخلها وثبا هرولة مع السابقين من أصحاب رسول الله..؟

    ونقل بعض أصحابه مقالة عائشة اليه, فتذكر أنه سمع من النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث أكثر من مرة, وبأكثر من صيغة.

    وقبل أن تفضّ مغاليق الأحمال من تجارته, حث خطاه الى بيت عائشة وقال لها: لقد ذكّرتيني بحديث لم أنسه..



    ثم قال:

    " أما اني أشهدك أن هذه القافلة بأحمالها, وأقتابها, وأحلاسها, في سبيل الله عز وجل"..

    ووزعت حمولة سبعمائة راحلة على أهل المدينة وما حولها في مهرجان برّ عظيم..!!

    هذه الواقعة وحدها, تمثل الصورة الكاملة لحياة صاحب رسول الله عبدالرحمن بن عوف".

    فهو التاجر الناجح, أكثر ما يكون النجاح وأوفاه..

    وهو الثري, أكثر ما يكون الثراء وفرة وافراطا..

    وهو المؤمن الأريب, الذي يأبى أن تذهب حظوظه من الدين, ويرفض أن يتخلف به ثراؤه عن قافلة الايمان ومثوبة الجنة.. فهو رضي الله عنه يجود بثروته في سخاء وغبطة ضمير..!!



    **



    متى وكيف دخل هذا العظيم الاسلام..؟

    لقد أسلم في وقت مبكر جدا..

    بل أسلم في الساعات الأولى للدعوة, وقبل أن يدخل رسول الله دار الأرقم ويتخذها مقرا لالتقائه بأصحابه المؤمنين..

    فهو أحد الثمانية الذن سبقوا الى الاسلام..

    عرض عليه أبوبكر الاسلام هو وعثمان بن عفان والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص, فما غمّ عليهم الأمر ولا أبطأ بهم الشك, بل سارعوا مع الصدّيق الى رسول الله يبايعونه ويحملون لواءه.

    ومنذ أسلم الى أن لقي ربه في الخامسة والسبعين من عمره, وهو نموذج باهر للمؤمن العظيم, مما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يضعه مع العشرة الذين بشّرهم بالجنة.. وجعل عمر رضي الله عنه يضعه مع أصحاب الشورى الستة الذين جعل الخلافة فيهم من بعده قائلا:" لقد توفي رسول الله وهو عنهم راض".

    وفور اسلام عبدالرحمن بن عوف حمل حظه المناسب, ومن اضطهاد قريش وتحدّياتها..

    وحين أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة الى الحبشة هاجر ابن عوف ثم عاد الى مكة, ثم هاجر الى الحبشة في الهجرة الثانية ثم هاجر الى المدينة.. وشهد بدرا, وأحدا, والمشاهد كلها..



    **



    وكان محظوظا في التجارة الى حدّ أثار عجبه ودهشه فقال:

    " لقد رأيتني, لو رفعت حجرا, لوجدت تحت فضة وذهبا"..!!

    ولم تكن التجارة عند عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه شرها ولا احتكارا..

    بل لم تكن حرصا على جمع المال شغفا بالثراء..

    كلا..

    انما كانت عملا, وواجبا يزيدهما النجاح قربا من النفس, ومزيدا من السعي..

    وكان ابن عوف يحمل طبيعة جيّاشة, تجد راحتها في العمل الشريف حيث يكون..

    فهو اذا لم يكن في المسجد يصلي, ولا في الغزو يجاهد فهو في تجارته التي نمت نموا هائلا, حتى أخذت قوافله تفد على المدينة من مصر, ومن الشام, محملة بكل ما تحتاج اليه جزيرة العرب من كساء وطعام..

    ويدلّنا على طبيعته الجيّاشة هذه, مسلكه غداة هجر المسلمين الى المدينة..

    لقد جرى نهج الرسول يومئذ على أن يؤاخي بين كل اثنين من أصحابه, أحدهما مهاجر من مكة, والآخر أنصاري من المدينة.

    وكانت هذه المؤاخات تتم على نسق يبهر الألباب, فالأنصاري من أهل المدينة يقاسم أخاه المهاجر كل ما يملك.. حتى فراشه, فاذا كان متزوجا باثنين طلق احداهما, ليتزوجها أخوه..!!

    ويومئذ آخى الرسول الكريم بين عبدالرحمن بن عوف, وسعد بن الربيع..

    ولنصغ للصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه يروي لنا ما حدث:

    " .. وقال سعد لعبدالرحمن: أخي, أنا أكثر أهل المدينة مالا, فانظر شطر مالي فخذه!!

    وتحتي امرأتان, فانظر أيتهما أعجب لك حتى أطلقها, وتتزوجها..!

    فقال له عبدالرحمن بن عوف:

    بارك الله لك في أهلك ومالك..

    دلوني على السوق..

    وخرج الى السوق, فاشترى.. وباع.. وربح"..!!

    وهكذا سارت حياته في المدينة, على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته, أداء كامل لحق الدين, وعمل الدنيا.. وتجارة رابحة ناجحة, لو رفع صاحبها على حد قوله حجرا من مكانه لوجد تحته فضة وذهبا..!!

    ومما جعل تجارته ناجحة مباركة, تحرّيه الحلال, ونأيه الشديد عن الحرام, بل عن الشبهات..

    كذلك مما زادها نجاحا وبركة أنها لم تكن لعبدالرحمن وحده.. بل كان لله فيها نصيب أوفى, يصل به أهله, واخوانه, ويجهّز به جيوش الاسلام..



    واذا كانت التجارة والثروات, انما تحصى بأعداد رصيدها وأرباحها فان ثروة عبدالرحمن بن عوف انما تعرف مقاديرها وأعدادها بما كان ينفق منها في سبيل الله رب العالمين..!!

    لقد سمع رسول الله يقول له يوما:

    " يا بن عوف انك من الأغنياء..

    وانك ستدخل الجنة حبوا..

    فأقرض الله يطلق لك قدميك"..

    ومن سمع هذا النصح من رسول الله, وهو يقرض ربه قرضا حسنا, فيضاعفه له أضعافا كثيرة.

    باع في يوم أرضا بأربعين ألف دينار, ثم فرّقها في أهله من بني زهرة, وعلى أمهات المؤمنين, وفقراء المسلمين.

    وقدّم يوما لجيوش الاسلام خمسمائة فرس, ويوما آخر الفا وخمسمائة راحلة.

    وعند موته, أوصى بخمسن ألف دينار في سبيل الله, وأوصى لكل من بقي ممن شهدوا بدرا بأربعمائة دينار, حتى ان عثمان بن عفان رضي الله عنه, أخذ نصيبه من الوصية برغم ثرائه وقال:" ان مال عبدالرحمن حلال صفو, وان الطعمة منه عافية وبركة".



    **



    كان ابن عوف سيّد ماله ولم يكن عبده..

    وآية ذلك أنه لم يكن يشقى بجمعه ولا باكتنازه..

    بل هو يجمعه هونا, ومن حلال.. ثم لا ينعم به وحده.. بل ينعم به معه أهله ورحمه واخوانه ومجتمعه كله.

    ولقد بلغ من سعة عطائه وعونه أنه كان يقال:

    " أهل المدينة جميعا شركاء لابن عوف في ماله.

    " ثلث يقرضهم..

    وثلث يقضي عنهم ديونهم..

    وثلث يصلهم ويعطيهم.."

    ولم يكن ثراؤه هذا ليبعث الارتياح لديه والغبطة في نفسه, لو لم يمكّنه من مناصرة دينه, ومعاونة اخوانه.

    أما بعد هذا, فقد كان دائم الوجل من هذا الثراء..

    جيء له يوما بطعام الافطار, وكان صائما..

    فلما وقعت عيناه عليه فقد شهيته وبكى وقال:

    " استشهد مصعب بن عمير وهو خير مني, فكفّن في بردة ان غطت رأسه, بدت رجلاه, وان غطت رجلاه بدا رأسه.

    واستشهد حمزة وهو خير مني, فلم يوجد له ما يكفن فيه الا بردة.

    ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط, وأعطينا منها ما أعطينا واني لأخشى أن نكون قد عجّلت لنا حسناتنا"..!!

    واجتمع يوما مع بعض أصحابه على طعام عنده.

    وما كاد الطعام يوضع أمامهم حتى بكى وسألوه:

    ما يبكيك يا أبا محمد..؟؟

    قال:

    " لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم, وما شبع هو وأهل بيته من خبز الشعير..

    ما أرانا أخرنا لما هو خير لنا"..!!

    كذلك لم يبتعث ثراؤه العريض ذرة واحدة من الصلف والكبر في نفسه..
    حتى لقد قيل عنه: انه لو رآه غريب لا يعرفه وهو جالس مع خدمه, ما استطاع أن يميزه من بينهم..!!
    لكن اذا كان هذا الغريب يعرف طرفا من جهاد ابن عوف وبلائه, فيعرف مثلا أنه أصيب يوم أحد بعشرين جراحة, وان احدى هذه الاصابات تركت عرجا دائما في احدى ساقيه.. كما سقطت يوم أحد بعض ثناياه. فتركت همّا واضحا في نطقه وحديثه..

    عندئذ لا غير, يستطيع هذا الغريب أن يعرف أن هذا الرجل الفارع القامة, المضيء الوجه, الرقيق البشرة, الأعرج, الأهتم من جراء اصابته يوم أحد هو عبدالرحمن بن عوف..!!

    رضي الله عنه وأرضاه..



    **



    لقد عوّدتنا طبائع البشر أن الثراء ينادي السلطة...

    أي أن الأثرياء يحبون دائما أن يكون لهم نفوذ يحمي ثراءهم ويضاعفه, ويشبع شهوة الصلف والاستعلاء والأنانية التي يثيرها الثراء عادة..

    فاذا رأينا عبدالرحمن بن عوف في ثرائه العريض هذا, رأينا انسانا عجبا يقهر طبائع البشر في هذا المجال ويتخطاها الى سموّ فريد..!

    حدث ذلك عندما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجود بروحه الطاهرة, ويختار ستة رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, ليختاروا من بينهم الخليفة الجديد..

    كانت الأصابع تومئ نحو ابن عوف وتشير..

    ولقد فاتحه بعض الصحابة في أنه أحق الستة بالخلافة, فقال:

    " والله, لأن تؤخذ مدية, فتوضع في حلقي, ثم ينفذ بها الى الجانب الآخر أحب اليّ من ذلك"..!!



    وهكذا لم يكد الستة المختارون يعقدون اجتماعهم ليختاروا أحدهم خليفة بعد الفاروق عمر حتى أنبأ اخوانه الخمسة الآخرين أنه متنازل عن الحق الذي أضفاه عمر عليه حين جعله أحد الستة الذين يختار الخليفة منهم.. وأنّ عليهم أن يجروا عملية الاختيار بينهم وحدهم أي بين الخمسة الآخرين..

    وسرعان ما أحله هذا الزهد في المنصب مكان الحكم بين الخمسة الأجلاء, فرضوا أن يختار هو الخليفة من بينهم, وقال الامام علي:

    " لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفك بأنك أمين في أهل السماء, وأمين في أهل الأرض"..

    واختار ابن عوف عثمان بن عفان للخلافة, فأمضى الباقون اختياره.



    **



    هذه حقيقة رجل ثري في الاسلام..

    فهل رأيتم ما صنع الاسلام به حتى رفعه فوق الثرى بكل مغرياته ومضلاته, وكيف صاغه في أحسن تقويم..؟؟

    وها هو ذا في العام الثاني والثلاثين للهجرة, يجود بأنفاسه..

    وتريد أم المؤمنين عائشة أن تخصّه بشرف لم تختصّ به سواه, فتعرض عليه وهو على فراش الموت أن يدفن في حجرتها الى جوار الرسول وأبي بكر وعمر..

    ولكنه مسلم أحسن الاسلام تأديبه, فيستحي أن يرفع نفسه الى هذا الجوار...!!

    ثم انه على موعد سابق وعهد وثيق مع عثمان بن مظعون, اذ تواثقا ذات يوم: أيهما مات بعد الآخر يدفن الى جوار صاحبه..



    **



    وبينما كانت روحه تتهيأ لرحلتها الجديدة كانت عيناه تفيضان من الدمع ولسانه يتمتم ويقول:

    " اني أخاف أن أحبس عن أصحابي لكثرة ما كان لي من مال"..

    ولكن سكينة الله سرعان ما تغشته, فكست وجهه غلالة رقيقة من الغبطة المشرقة المتهللة المطمئنة..

    وأرهفت أذناه للسمع.. كما لو كان هناك صوت عذب يقترب منهما..

    لعله آنئذ, كان يسمع صدق قول الرسول صلى الله عليه وسلم له منذ عهد بعيد:

    " عبدالرحمن بن عوف في الجنة"..

    ولعله كان يسمع أيضا وعد الله في كتابه..

    ( الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله, ثم لا يتبعون ما أنفقوا منّا ولا أذى, لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)..

  12. #42
    تاريخ التسجيل : Dec 2006
    رقم العضوية : 20624



    ---((( أبو جابر عبدالله بن عمرو بن حرام )))---



    ظليل الملائكة



    عندما كان الأنصار السبعون يبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الثانية, كان عبدالله بن عمرو بن حرام, أبو جابر بن عبدالله أحد هؤلاء الأنصار..

    ولما اختار الرسول صلى الله عليه وسلم منهم نقباء, كان عبدالله بن عمرو أحد هؤلاء النقباء.. جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم نقيبا على قومه من بني سلمة..

    ولما عاد الى المدينة وضع نفسه, وماله, وأهله في خدمة الاسلام..

    وبعد هجرة الرسول الى المدينة, كان أبو جابر قد وجد كل حظوظه السعيدة في مصاحبة النبي عليه السلام ليله ونهاره..



    **



    وفي غزوة بدر خرج مجاهدا, وقاتل قتال الأبطال..

    وفي غزوة أحد تراءى له مصرعه قبل أن يخرج المسلمون للغزو..

    وغمره احساس صادق بأنه لن يعود, فكاد قلبه يطير من الفرح!!

    ودعا اليه ولده جابر بن عبدالله الصحابي الجليل, وقال له:

    " اني لا أراي الا مقتولا في هذه الغزوة..

    بل لعلي سأكون أول شهدائها من المسلمين..

    واني والله, لا أدع أحدا بعدي أحبّ اليّ منك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم..

    وان عليّ دينا, فاقض عني ديني, واستوص باخوتك خيرا"..



    **



    وفي صبيحة اليوم التالي, خرج المسلمون للقاء قريش..

    قريش التي جاءت في جيش لجب تغزو مدينتهم الآمنة..

    ودارت معركة رهيبة, أدرك المسلمون في بدايتها نصرا سريعا, كان يمكن أن يكون نصرا حاسما, لولا أن الرماة الذين امرهم الرسول عليه السلام بالبقاء في مواقعهم وعدم مغادرتها أبدا أغراهم هذا النصر الخاطف على القرشيين, فتركوا مواقعهم فوق الجبل, وشغلوا بجمع غنائم الجيش المنهزم..

    هذا الجيش الذي جمع فلوله سريعا حين رأى ظهر المسلمين قد انكشف تماما, ثم فاجأهم بهجوم خاطف من وراء, فتحوّل نصر المسلمين الى هزيمة..



    **



    في هذا القتال المرير, قاتل عبدالله بن عمرو قتال مودّع شهيد..

    ولما ذهب المسلمون بعد نهاية القتال ينظرون شهدائهم.. ذهب جابر ابن عبداله يبحث عن أبيه, حتى ألفاه بين الشهداء, وقد مثّل به المشركون, كما مثلوا يغيره من الأبطال..

    ووقف جابر وبعض أهله يبكون شهيد الاسلام عبدالله بن عمرو بم حرام, ومرّ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يبكونه, فقال:

    " ابكوه..

    أولا تبكوه..

    فان الملائكة لتظلله بأجنحتها"..!!



    **



    كان ايمان أبو جابر متألقا ووثيقا..

    وكان حبّه بالموت في سبيل الله منتهى أطماحه وأمانيه..

    ولقد أنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فيما بعد نبأ عظيما, يصوّر شغفه بالشهادة..

    قال عليه السلام لولده جابر يوما:

    " يا جابر..

    ما كلم الله أحدا قط الا من وراء حجاب..

    ولقد كلّم كفاحا _أي مواجهة_

    فقال له: يا عبدي, سلني أعطك..

    فقال: يا رب, أسألك أن تردّني الى الدنيا, لأقتل في سبيلك ثانية..

    قال له الله:

    انه قد سبق القول مني: أنهم اليها لا يرجعون.

    قال: يا رب فأبلغ من ورائي بما أعطيتنا من نعمة..

    فأنزل الله تعالى:

    (ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا, بل أحياء عند ربهم يرزقون, فرحين بما أتاهم الله من فضله, ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم. ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون)".



    **



    وعندما كان المسلمون يتعرفون على شهدائهم الأبرار, بعد فراغ القتال في أحد..

    وعندما تعرف أهل عبدالله بن عمرو على جثمانه, حملته زوجته على ناقتها وحملت معه أخاها الذي استشهد أيضا, وهمّت بهما راجعة الى المدينة لتدفنهما هناك, وكذلك فعل بعض المسلمين بشهدائهم..

    بيد أن منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم لحق بهم وناداهم بأمر رسول الله أن:

    " أن ادفنوا القتلى في مصارعهم"..

    فعاد كل منهم بشهيده..

    ووقف النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يشرف على دفن أصحابه الشهداء, الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه, وبذلوا أرواحهم الغالية قربانا متواضعا لله ولرسوله.

    ولما جاء دور عبدالله بن حرام ليدفن, نادى رسول الله صلى اله عليه وسلم:

    " ادفنوا عبدالله بن عمرو, وعمرو بن الجموح في قبر واحد, فانهما كانا في الدنيا متحابين, متصافين"..



    **



    والآن..

    في خلال اللحظات التي يعدّ فيها القبر السعيد لاستقبال الشهيدين الكريمين, تعالوا نلقي نظرة محبّة على الشهيد الثاني عمرو بن الجموح...

  13. #43
    تاريخ التسجيل : Dec 2006
    رقم العضوية : 20624



    ---((( عمرو بن الجموح )))---



    أريد أن أخطر بعرجتي في الجنة



    انه صهر عبدالله بن حرام, اذ كان زوجا لأخته هند بن عمرو..

    وكان ابن الجموح واحدا من زعماء المدينة, وسيدا من سادات بني سلمة..

    سبقه الى الاسلام ابنه معاذ بن عمرو الذي كان أحد الأنصار السبعين, أصحاب البيعة الثانية..

    وكان معاذ بن عمرو وصديقه معاذ بن جبل يدعوان للاسلام بين أهل المدينة في حماسة الشباب المؤمن الجريء..

    وكان من عادة الناس هناك أن يتخذ الأشراف من بيوتهم أصناما رمزية غير تلك الأصنام الكبيرة المنصوبة في محافلها, والتي تؤمّها جموع الناس..

    وتعود معاذ بن عمرو بن الجموح مع صديقه معاذ بن جبل على أن يجعلا من صنم عمرو بن جموح سخرية ولعبا..

    فكانا يدلجان عليه ليلا, ثم يحملانه ويطرحانه في حفرة يطرح الناس فيه فضلاتهم..

    ويصيح عمرو فلا يجد منافا في مكانه, ويبحث عنه حتى يجده طريح تلك الحفرة.. فيثور ويقول:

    ويلكم من عدا على آلهتنا الليلة..!؟

    ثم يغسله ويطهره ويطيّبه..

    فاذا جاء ليل جديد, صنع المعاذان معاذ بن عمرو ومعاذ بن جبل بالصنم مثل ما يفعلان به كل ليلة.

    حتى اذا سئم عمرو جاء بسيفه ووضعه في عنق مناف وقال له: ان كان فيك خير فدافع عن نفسك..!!

    فلما اصبح فلم يجده مكانه.. بل وجده في الحفرة ذاتها طريحا, بيد أن هذه المرة لم يكن في حفرته وحيدا, بل كان مشدودا مع كلب ميت في حبل وثيق.

    واذا هو في غضبه, وأسفه ودهشه, اقترب منه بعض أشراف المدينة الذين كانوا قد سبقوا الى الاسلام.. وراحوا, وهم يشيرون بأصابعهم الى الصنم المنكّس المقرون بكلب ميت, يخاطبون في عمرو بن الجموح عقله وقلبه ورشده, محدثينه عن الاله الحق, العلي الأعلى, الذي ليس كمثله شيء.

    وعن محمد الصادق الأمين, الذي جاء الحياة ليعطي لا ليأخذ.. ليهدي, لا ليضل..

    وعن الاسلام, الذي جاء يحرر البشر من الأعلال, جميع الأغلل, وجاء يحيى فيهم روح الله وينشر في قلوبهم نوره.

    وفي لحظات وجد عمرو نفسه ومصيره..

    وفي لحظات ذهب فطهر ثوبه, وبدنه.. ثم تطيّب وتأنق, وتألق, وذهب عالي الجبهة مشرق النفس, ليبايع خاتم المرسلين, وليأخذ مكانه مع المؤمنين.



    **



    قد يسأل سائل نفسه, كيف كان رجال من أمثال عمرو بن الجموح.. وهم زعماء قومهم وأشراف.. كيف كانوا يؤمنون بأصنام هازلة كل هذا الايمان..؟

    وكيف لم تعصمهم عقولهم عن مثل هذا الهراء.. وكيف نعدّهم اليوم, حتى مع اسلامهم وتضحياتهم, من عظماء الرجال..؟

    ومثل هذا السؤال يبدو ايراده سهلا في أيامنا هذه حيث لا نجد طفلا يسيغ عقله أن ينصب في بيته خشبة ثم يعبدها..

    لكن في أيام خلت, كانت عواطف البشر تتسع لمثل هذا الصنيع دون أن يكون لذكائهم ونبوغهم حيلة تجاه تلك التقاليد..!!

    وحسبنا لهذا مثلا أثينا..

    أثينا في عصر باركليز وفيثاغورس وسقراط..

    أثينا التي كانت قد بلغت رقيّا فكريا يبهر الأباب, كان أهلها جميعا: فلاسفة, وحكاما, وجماهير يؤمنون بأصنام منحوتة تناهي في البلاهة والسخرية!!

    ذلك أن الوجدان الديني في تلك العصور البعيدة, لم يكن يسير في خط مواز للتفوق العقلي...



    **



    أسلم عمرو بن الجموح قلبه, وحياته لله رب العالمين, وعلى الرغم من أنه كان مفطورا على الجود والسخاء, فان الاسلام زاد جوده مضاء, فوضع كل ماله في خدمة دينه واخوانه..

    سأل الرسول عليه الصلاة والسلام جماعة من بني سلمة قبيلة عمرو بن الجموح فقال:

    من سيّدكم يا بني سلمة..؟

    قالوا: الجدّ بن قيس, على بخل فيه..

    فقال عليه الصلاة والسلام:

    وأي داء أدوى من البخل!!

    بل سيّدكم الجعد الأبيض, عمرو بن الجموح..

    فكانت هذه الشهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم تكريما لابن الجموح, أي تكريم..!

    وفي هذا قال شاعر الأنصار:

    فسوّد عمرو بن الجموح لجوده

    وحق لعمرو بالنّدى أن يسوّدا

    اذا جاءه السؤال أذهب ماله

    وقال: خذوه, انه عائد غدا

    وبمثل ما كان عمرو بن الجموح يجود بماله في سبيل الله, أراد أن يجود بروحه وبحياته..

    ولكن كيف السبيل؟؟

    ان في ساقه عرجا يجعله غير صالح للاشتراك في قتال.

    وانه له أربعة أولاد, كلهم مسلمون, وكلهم رجال كالأسود, كانوا يخرجون مع الرسول صلى الله عليه وسلم في الغزو, ويثابرون على فريضة الجهاد..

    ولقد حاول عمرو أن يخرج في غزوة بدر فتوسّل أبناؤه الى النبي صلى الله عليه وسلم كي يقنعه بعدم الخروج, أو يأمره به اذا هو لم يقتنع..

    وفعلا, أخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن الاسلام يعفيه من الجهاد كفريضة, وذلك لعجزه الماثل في عرجه الشديد..

    بيد أنه راح يلحّ ويرجو.. فأمره الرسول بالبقاء في المدينة.



    **



    وجاءت غزوة أحد فذهب عمرو الى النبي صلى الله عليه وسلم يتوسل اليه أن يأذن له وقال له:

    " يا رسول الله انّ بنيّ يريدون أن يحبسوني عن الخروج معك الى الجهاد..

    ووالله اني لأرجو أن, أخطر, بعرجتي هذه في الجنة"..

    وأمام اصراره العظيم أذن له النبي عليه السلام بالخروج, فأخذ سلاحه, وانطلق يخطر في حبور وغبطة, ودعا ربه بصوت ضارع:

    " اللهم ارزقني الشهادة ولا تردّني الى أهلي".

    والتقى الجمعان يوم أحد..

    وانطلق عمرو بن الجموح وأبناؤه الأربعة يضربون بسيوفهم جيوش الشرك والظلام..

    كان عمرو بن الجموح يخطر وسط المعمعة الصاخبة, ومع كل خطرة يقطف سيفه رأسا من رؤوس الوثنية..

    كان يضرب الضربة بيمينه, ثم يلتفت حواليه في الأفق الأعلى, كأنه يتعجل قدوم الملاك الذي سيقبض روحه, ثم يصحبها الى الجنة..

    أجل.. فلقد سأل ربه الشهادة, وهو واثق أن الله سبحانه وتعالى قد استجاب له..

    وهو مغرم بأن يخطر بساقه العرجاء في الجنة ليعلم أهلها أن محمدا رسول اله صلى الله عليه وسلم, يعرف كيف يختار الأصحاب, وكيف يربّي الرجال..!!



    **



    وجاء ما كان ينتظر.

    ضربةسيف أومضت, معلنة ساعة الزفاف..

    زفاف شهيد مجيد الى جنات الخلد, وفردوس الرحمن..!!



    **



    واذ كان المسلمون يدفنون شهداءهم قال الرسول عليه الصلاة والسلام أمره الذي سمعناه من قبل:

    " انظروا, فاجعلوا عبدالله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح في قبر واحد, فانهما كانا في الدنيا متحابين متصافيين"..!!



    **



    ودفن الحبيبان الشهيدان الصديقان في قبر واحد, تحت ثرى الأرض التي تلقت جثمانيهما الطاهرين, بعد أن شهدت بطولتهما الخارقة.

    وبعد مضي ست وأربعين سنة على دفنهما, نزل سيل شديد غطّى أرض القبور, بسبب عين من الماء أجراها هناك معاوية, فسارع المسلمون الى نقل رفات الشهداء, فاذا هم كما وصفهم الذين اشتركوا في نقل رفاتهم:

    " ليّنة أجسادهم..

    تتثنى أطرافهم"..!



    وكان جابر بن عبدالله لا يزال حيا, فذهب مع أهله لينقل رفات أبيه عبدالله بن عمرو بن حرام, ورفات زوج عمته عمرو بن الجموح..

    فوجدهما في قبرهما, كأنهما نائمان.. لم تأكل الأرض منهما شيئا, ولم تفارق شفاههما بسمة الرضا والغبطة التي كانت يوم دعيا للقاء الله..

    أتعجبون..؟

    كلا, لا تعجبوا..

    فان الأرواح الكبيرة, التقية, النقية, التي سيطرت على مصيرها.. تترك في الأجساد التي كانت موئلا لها, قدرا من المناعة يدرأ عنها عوامل التحلل, وسطوة التراب..

  14. #44
    تاريخ التسجيل : Dec 2006
    رقم العضوية : 20624



    ---((( حبيب بن زيد )))---

    أسطورة فداء وحب



    في بيعة العقبة الثانية التي مر بنا ذكرها كثيرا, والتي بايع الرسول صلى الله عليه وسلم فيها سبعون رجلا وسيدتان من أهل المدينة, كان حبيب بن زيد وأبوه زيد بن عاصم رضي الله عنهما من السبعين المباركين..

    وكانت أمه نسيبة بنت كعب أولى السيدتان اللتين بايعتا رسول الله صلى الله عليه وسلم..

    أم السيدة الثانية فكانت خالته..!!

    هو اذن مؤمن عريق جرى الايمان في أصلابه وترائبه..

    ولقد عاش الى جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هجرته الى المدينة لا يتخلف عن غزوة, ولا يقعد عن واجب..



    **



    وذات يوم شهد جنوب الجزيرة العربية كذابين عاتيين يدّعيان النبوة ويسوقان الناس الى الضلال..

    خرج أحدهما بصنعاء, وهو الأسود بن كعب العنسي..

    وخرج الثاني باليمامة, وهو مسيلمة الكذاب..

    وراح الكذابان يحرّضان الناس على المؤمنين الذين استجابوا لله, وللرسول في قبائلهما, ويحرّضان على مبعوثي رسول الله الى تلك الديار..

    وأكثر من هذا, راحا يشوّشان على النبوة نفسها, ويعيثان في الأرض فسادا وضلالا..



    **



    وفوجئ الرسول يوما بمبعوث بعثه مسيلمة يحمل منه كتابا يقول فيه "من مسيلمة رسول الله, الى محمد رسول الله.. سلام عليك.. أما بعد, فاني قد أشركت في الأمر معك, وان لنا نصف الأرض, ولقريش نصفها, ولكنّ قريشا قوم يعتدون"..!!!

    ودعا رسول الله أحد أصحابه الكاتبين, وأملى عليه ردّه على مسيلمة:

    " بسم الله الرحمن الرحيم..

    من محمد رسول الله, الى مسيلمة الكذاب.

    السلام على من اتبع الهدى..

    أما بعد, فان الأرض لله يورثها من يشاء من عباده, والعاقبة للمتقين"..!!

    وجاءت كلمات الرسول هذه كفلق الصبح. ففضحت كذاب بني حنيفة الذي ظنّ النبوّة ملكا, فراح يطالب بنصف الأرض ونصف العباد..!

    وحمل مبعوث مسيلمة رد الرسول عليه السلام الى مسيلمة الذي ازداد ضلالا واضلالا..



    **



    ومضى الكذب ينشر افكه وبهتانه, وازداد أذاه للمؤمنين وتحريضه عليهم, فرأى الرسول أن يبعث اليه رسالة ينهاه فيها عن حماقاته..

    ووقع اختياره على حبيب بن زيد ليحمله الرسالة مسيلمة..

    وسافر حبيب يغذّ الخطى, مغتبطا بالمهمة الجليلة التي ندبه اليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ممنّيا نفسه بأن يهتدي الى الحق, قلب مسيلمة فيذهب حبيب بعظيم الأجر والمثوبة.



    **



    وبلغ المسافر غايته..

    وفضّ مسيلمة الكذاب الرسالة التي أعشاه نورها, فازداد امعانا في ضلاله وغروره..

    ولما لم يكن مسيلمة أكثر من أفّاق دعيّ, فقد تحلى بكل صفات الأفّاقين الأدعياء..!!

    وهكذا لم يكن معه من المروءة ولا من العروبة والرجولة ما يردّه عن سفك دم رسول يحمل رسالة مكتوبة.. الأمر الذي كانت العرب تحترمه وتقدّسه..!!

    وأراد قدر هذا الدين العظيم, الاسلام, أن يضيف الى دروس العظمة والبطولة التي يلقيها على البشرية بأسرها, درسا جديدا موضوعه هذه المرة, وأستاذه أيضا, حبيب بن زيد..!!



    **



    جمع الكذاب مسيلمة قومه, وناداهم الى يوم من أيامه المشهودة..

    وجيء بمبعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم, حبيب بن زيد, يحمل آثار تعذيب شديد أنزله به المجرمون, مؤملين أن يسلبوا شجاعة روحه, فيبدو امام الجميع متخاذلا مستسلما, مسارعا الى الايمان بمسيلمة حين يدعى الى هذا الايمان أمام الناس.. وبهذا يحقق الكذاب الفاشل معجزة موهومة أمام المخدوعين به..



    **



    قال مسيلمة لـ حبيب:

    " أتشهد أن محمدا رسول الله..؟

    وقال حيب:

    نعم أشهد أن محمدا رسول الله.

    وكست صفرة الخزي وجه مسيلمة وعاد يسأله:

    وتشهد أني رسول الله..؟؟

    وأجاب حبيب في سخرية قاتلة:

    اني لا أسمع شيئا..!!

    وتحوّلت صفرة الخزي على وجه مسيلمة الى سواد حاقد مخبول..

    لقد فشلت خطته, ولم يجده تعذيبه, وتلقى أمام الذين جمعهم ليشهدوا معجزته.. تلقى لطمة قوية أسقطت هيبته الكاذبة في الوحل..

    هنالك هاج كالثور المذبوح, ونادى جلاده الذي أقبل ينخس جسد حبيب بسنّ سيفه..

    ثم راح يقطع جسده قطعة قطعة, وبضعة بضعة, وعضوا عضوا..

    والبطل العظيم لا يزيد على همهمة يردد بها نشيد اسلامه:

    " لا اله الا الله محمد رسول الله"..



    **



    لو أن حبيبا أنقذ حياته يومئذ بشيء من المسايرة الظاهرة لمسيلمة, طاويا على الايمان صدره, لما نقض ايمانه شيئا, ولا أصاب اسلامه سوء..

    ولكن الرجل الذي شهد مع أبيه, وأمه, وخالته, وأخيه بيعة العقبة, والذي حمل منذ تلك اللحظات الحاسمة المباركة مسؤولية بيعته وايمانه كاملة غير منقوصة, ما كان له أن يوازن لحظة من نهار بين حياته ومبدئه..

    ومن ثمّ لم يكن أمامه لكي يربح حياته كلها مثل هذه الفرصة الفريدة التي تمثلت فيها قصة ايمانه كلها.. ثبات, وعظمة, وبطولة, وتضحية, واستشهاد في سبيل الهدى والحق يكاد يفوق في حلاوته, وفي روعته كل ظفر وكل انتصار..!!



    **



    وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم نبأ استشهاد مبعوثه الكريم, واصطبر لحكم ربه, فهو يرى بنور الله مصير هذا الكذاب مسيلمة, ويكاد يرى مصرعه رأي العين..

    أما نسيبة بنت كعب أم حبيب فقد ضغطت على أسنانها طويلا, ثم أطلقت يمينا مبررا لتثأرن لولدها من مسيلمة ذاته, ولتغوصنّ في لحمه الخبيث برمحها وسيفها..

    وكان القدر الذي يرمق آنئذ جزعها وصبرها وجلدها, يبدي اعجابا كبيرا بها, ويقرر في نفس الوقت أن يقف بجوارها حتى تبرّ بيمينها..!!

    ودارت من الزمان دورة قصيرة.. جاءت على أثرها الموقعة الخالدة, موقعة اليمامة..
    وجهّز أبو بكر الصدّيق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش الاسلام الذاهب الى اليمامة حيث أعدّ مسيلمة أضخم جيش..

    وخرجت نسيبة مع الجيش..

    وألقت بنفسها في خضمّ المعركة, في يمناها سيف, وفي يسراها رمح, ولسانها لا يكفّ عن الصياح:

    " أين عدوّ الله مسيلمة".؟؟

    ولما قتل مسيلمة, وسقط أتباعه كالعهن المنفوش, وارتفعت رايات الاسلام عزيزة ظافرة.. وقفت نسيبة وقد ملىء جسدها الجليل, القوي بالجراح وطعنات الرمح..

    وقفت تستجلي وجه ولدها الحبيب, الشهيد حبيب فوجدته يملأ الزمان والمكان..!!

    أجل..

    ما صوّبت نسيبة بصرها نحو راية من الرايات الخفاقة المنتصرة الضاحكة الا رأت عليها وجه ابنها حبيب خفاقا.. منتصرا.. ضاحكا..

  15. #45
    تاريخ التسجيل : Dec 2006
    رقم العضوية : 20624



    ---((( أبيّ بن كعب )))---



    ليهنك العلم, أبا المنذر



    سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم:

    " يا أبا المنذر..؟

    أي آية من كتاب الله أعظم..؟؟

    فأجاب قائلا:

    الله ورسوله أعلم..

    وأعاد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سؤاله:

    أبا المنذر..؟؟

    أيّ أية من كتاب الله أعظم..؟؟

    وأجاب أبيّ:

    الله لا اله الا هو الحيّ القيّوم..

    فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره بيده, وقال له والغبطة تتألق على محيّاه:

    ليهنك العلم أبا المنذر"...



    **



    ان أبا المنذر الذي هنأه الرسول الكريم بما أنعم الله عليه من علم وفهم هو أبيّ بن كعب الصحابي الجليل..

    هو أنصاري من الخزرج, شهد العقبة, وبدرا, وبقية المشاهد..

    وبلغ من المسلمين الأوائل منزلة رفيعة, ومكانا عاليا, حتى لقد قال عنه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنهما:

    " أبيّ سيّد المسلمين"..

    وكان أبيّ بن كعب في مقدمة الذين يكتبون الوحي, ويكتبون الرسائل..

    وكان في حفظه القرآن الكريم, وترتيله اياه, وفهمه آياته,من المتفوقين..

    قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما:

    " يا أبيّ بن كعب..

    اني أمرت أن أعرض عليك القرآن"..

    وأبيّ يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انما يتلقى أوامره من الوحي..

    هنالك سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في نشوة غامرة:

    " يا رسول الله بأبي أنت وأمي.. وهل ذكرت لك باسمي..؟؟

    فأجاب الرسول

    " نعم..

    باسمك, ونسبك, في الملأ الأعلى"..!!

    وان مسلما يبلغ من قلب النبي صلى الله عليه وسلم هذه المنزلة لهو مسلم عظيم جد عظيم..

    وطوال سنوات الصحبة, وأبيّ بن كعب قريب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهل من معينه العذب المعطاء..

    وبعد انتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الى الرفيق الأعلى, ظلّ أبيّ على عهده الوثيق.. في عبادته, وفي قوة دينه, وخلقه..

    وكان دائما نذيرا في قومه..

    يذكرهم بأيام رسول الله صلى الله عليه وسلم, وماكانوا عليه من عهد, وسلوك وزهد..

    ومن كلماته الباهرة التي كان يهتف بها في أصحابه:

    " لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوهنا واحدة..

    فلما فارقنا, اختلفت جوهنا يمينا وشمالا"..



    **



    ولقد ظل مستمسكا بالتقوى, معتصما بالزهد, فلم تستطع الدنيا أن تفتنه أو تخدعه..

    ذلك أنه كان يرى حقيقتها في نهايتها..

    فمهما يعيش المرء, ومهما يتقلب في المناعم والطيبات, فانه ملاق يوما يتحول فيه كل ذلك الى هباء, ولا يجد بين يديه الا ما عمل من خير, أو ما عمل من سوء..

    وعن عمل الدنيا يتحدّث أبيّ فيقول:

    " ان طعام ني آدم, قد ضرب للدنيا مثلا..

    فان ملّحه, وقذحه, فانظر الى ماذا يصير"..؟؟



    **



    وكان أبيّ اذا تحدّث للناس استشرفته الأعناق والأسماع في شوق واصغاء..

    ذلك أنه من الذين لم يخافوا في الله أحدا.. ولم يطلبوا من الدنيا غرضا..

    وحين اتسعت بلاد الاسلام, ورأى المسلمين يجاملون ولاتهم في غير حق, وقف يرسل كلماته المنذرة:

    " هلكوا ورب الكعبة..

    هلكوا وأهلكوا..

    أما اني لا آسى عليهم, ولكن آسى على من يهلكون من المسلمين".



    **



    وكان على كثرة ورعه وتقاه, يبكي كلما ذكر الله واليوم الآخر.

    وكانت آيات القرآن الكريم وهو يرتلها, أو يسمعها تهز كل كيانه..

    وعلى أن من تلك الآيات الكريمة, كان اذا سمعها أو تلاها تغشاه من الأسى ما لا يوصف..

    تلك هي:

    ( قل هو القادر على ان يبعث عليكم عذابا من فوقكم, أو من تحت أرجلكم, أو يلبسكم شيعا.. ويذيق بعضكم بأس بعض)..

    كان أكثر ما يخشاه أبيّ على الأمة المسلمةأن يأتي عليها اليوم الذي يصير بأس أبنائها بينهم شديدا..

    وكان يسأل الله العافية دوما.. ولقد أدركها بفضل من الله ونعمة..

    ولقي ربه مؤمنا, وآمنا ومثابا..

صفحة 3 من 5 الأولىالأولى 12345 الأخيرةالأخيرة

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة واحة الدرر 1432هـ - 2011م
كل ما يكتب في هذا المنتدى يمثل وجهة نظر كاتبها الشخصية فقط