" وَ غَصّتْ الأرضُ بشجَرة .. "

..

يسفر عن وجهه عن شجر كثير , وتتعرّق جبهته ورداً أحمرْ , تقول أنه " ورد بلدي " لكني لاأراه كذلك فرائحته لم تكن قوية كالورد البلدي فعلاً . على الطرف الآخر تسجد أشجار الموز , ويركع الخوخ واللوز والرمّان والتين , وتغلي في عروقه أوراق الياسمين .

شيء من الغيرة الهادئة يصيبني كلّما ذهبتُ لزيارة " أم عبد الله " .. تلك السيّدة الرحيمة التي كان بيتي القديم يقبع بجوارها , كانت رحيمة كالمطر! تهتم بشَجَراتها وتحزن إذا مالت الريح بإحداهن .
كنتُ أنزعج من تساقط أوراق شجرة اللوز الحيّة على قطع الرخام الأسمنتية الميتة في فناء بيتي . وأتبرم من هذا الإتساخ الحاصل , أشعر أن بستانها قد أتى على كل أوكسجين الدنيا , فأصابُ بتوتر وضيق في النفس وأطلب من الخادمة أن ترفع شجيرات " أم عبد الله " المنسدلة على كتف جدارنا .. أو تقصها.
في يوم الثلاثاء من كل أسبوع , كانت الجارات يجتمعن لتناول طعام الفطور في بيت هذه المرأة الطيبة وكانت تصرّ على أن يكون فطورنا حياً من أرضها غير معلّب , فكلّ ماتطعمنا إياه كانت تطلق عليه " بلدي " ذا مذاق خاص بدءً من البيض واللبنة والزبدة والحليب وحبات الخيار وأوراق الخس والنعناع وكل الفواكة والخضروات الصعبة , التي تنبت في حيّ راكد لايهتز ولايتحرك ولايثمر عن شيء .
كنا نجلس في أحضان القطن أو بين فقاعات الغيم , والأرجح أنه بساط أخضر ملمسه يوحي بالقطن أو الغيم وسماؤه كرمة عنب تتدلى فوق رؤوسنا وتسقط حباتها أحياناً فوق ثيابنا فأدركُ بأن الشجر أيضاً قد يضيق بأصحابه .
كانت " أم عبد الله " تضحك وتقول بأنه لايضيق , إنما كرمة العنب هذه سخّية .

تذكّرتُ كل هذا وأنا في بيتها اليوم وبعد سنوات .. في قلب المجلس وبعض الجارات في غياب .

حاولتُ أن أجد مبرراً لما أذهلني , لكنها قالت :
الشجر ضاق بأصحابه , وفاتورة الماء باهظة , البيت كذلك ضاق بأهله , الأولاد قد كبروا .. وآثرنا اقتلاع كل شيء .. لبناء غرف اسمنتية جديدة .

..

رغد