البكاء ظاهرة بشرية تفرد بها الإنسان للتعبير عن مشاعره

قد تفرح إسرائيل عندما ترى الدموع وهي تذرف من أعين المنكوبين والمشردين ضحايا الحرب الجائرة على الأرضي اللبنانية والفلسطينية، وهي لا تعلم فائدة الدموع، فلو علمت لحرَمتها علينا، وما أصعب أن نبكي بلا دموع.

فالبعض منا يخجل من بكائه حتى ولو أمام نفسه، بينما يترك الآخرون لدموعهم حرية الانطلاق معبرة عن مشاعرهم وحرقتهم تجاه الظلم والظالمين فلا سبيل لهم غير ذلك، ويا له من خير سبيل.

فالبكاء ظاهرة بشرية تفرد بها الإنسان للتعبير عن مشاعره، ومن المعروف والثابت علميا أن الحيوانات لا تعرف الدمع أبدا (الناتج عن الشعور بالألم الروحي)، ويؤكد على هذا الدكتور محمد السقا إخصائي جراحة العيون وعضو الجمعية الرمدية المصرية قائلا: "الحيوانات لا تبكي أبدا بالرغم من أنها تملك قنوات دمعية، ولديها السائل الدمعي، ولكنه لا يظهر إلا لأسباب عضوية بحتة ومنها إذا تهيجت النهايات الحسية العصبية في العين -لأي سبب- كرد فعل وقائي لترطيب العينين.

وعبارة "دموع التماسيح" التي كثيرا ما نسمعها هي تعبير دقيق يطلق على الإنسان غير الصادق في مشاعره، أو الذي يصطنع البكاء.

الدمع.. فيتامينات وبروتينات

وقد بدأ الباحثون في فهم ظاهرة البكاء منذ حوالي 15 عاما حيث أجريت أبحاث كثيرة على السائل الدمعي لفهم تركيبه ومحتوياته؛ فالدمع تركيبة معقدة يمكننا القول بأنه عبارة عن سائل ملحي المذاق يتكون من أكسجين وصوديوم وبوتاسيوم وكالسيوم وماغنسيوم وأمونيا والأزوت وفيتامين ب 12 وفيتامين (ج) والأحماض الأمينية والحديد والنحاس والزنك والمنجنيز والكلورين والفسفور والبيكروبونات والإنزيمات، و60 نوعا من البروتينات.

هذه المكونات تزداد تعقيدا عند ملامستها للأغشية المخاطية داخل القناة الدمعية، فيضاف إليها الدهنيات والسكريات والأحماض الأمينية، كذلك الإفرازات الدهنية الغنية بالكولسترول وثلاثي الجلسرين، والتي تغذي العين بأكملها وتحميها من الالتهابات عند البكاء.

كيف تذرف دمعا

يتشكل الجهاز الدمعي من غدة أساسية شبه أسفنجية توجد فوق مُقلة العين تُسمى بالغدد الدمعية
LACRIMAL GLAND، ومجموعة أخرى من الغدد الثانوية لإفراز الدموع المبللة لسطح العين، بالإضافة إلى كيس دمعي لتصريف الدموع الزائدة، وتتكامل وظيفة الجهاز الدمعي بفرز طبقة دمعية من الملتحمة أعلى التجويف العظمي للعين، ويتم التخلص من الدموع الزائدة عن طريق فتحة تصريف القنوات الدمعية الموجود على جانبي الجفن العلوي والسفلي.

ينقل الجفن ذلك السائل العجيب ليغطي به سطح العين في أثناء عملية الرمش، والإنسان العادي يرمش مرة واحدة كل ثانيتين إلى 10 ثوان.

لماذا تدمع؟

الدمع يحافظ على نقاء القرنية الذي يؤدي إلى رؤية واضحة، هذا بالإضافة إلى وظيفته الدفاعية الوقائية، حيث تساعد الدموع على مرونة حركة الجفون وتطهيرها بصورة مستمرة وحمايتها من الإصابة بالجفاف؛ فالدمع يحتوي على إنزيمات تحلل الجراثيم وتحمي العين من الالتهابات، ومن المدهش أنها تبطل عمل 90-95% من البكتيريا خلال فترة 5-10 دقائق فقط، فتبقى العين سليمة رغم تعرضها للجراثيم الضارة الموجودة بكثرة في الهواء.

وطالما بقيت العين رطبة كانت خلاياها السطحية سليمة، فإذا ما جفت انعدم البريق منها فتنكمش خلاياها وتغزوها العروق الدموية فيتجلد سطحها، وتقوم الدموع أيضا بالتخلص من جزيئات الغبار فتنجرف بواسطتها على سطح العين الأمامي.

أضف إلى هذا وظيفة الدموع الغذائية حيث يحمل الدمع بعض المواد المغذية للغشاء الظهاري في العين، والأهم من ذلك هو أن الجزء الأكبر من مادة الأكسجين يأتي للقرنية من خلال أكسجين الجو، ولا ننسى أنه لولا الدموع لما أمكن تثبيت العدسات اللاصقة؛ إذ تتوقف درجة تحمل العين للعدسات على درجة مرونتها وترطيبها.

علاج بالدموع

وتذكر الدكتورة منى الرخاوي المدرسة بكلية الطب النفسي جامعة القاهرة، أن للدموع وظائف أخرى نفسية فهي تحمي من الإصابة بالأمراض النفسية، حيث ثبت أن الشخصية التي تفرغ شحنات الانفعال أولا فأولا من خلال البكاء تقل لديها فرص الإصابة بالاكتئاب والأمراض النفسية، بعكس الشخصية التي تكبت انفعالاتها ولا تعبر عنها بالبكاء.

والدموع التي تنهمر كرد فعل للأحداث العاطفية، تحتوي على هرمونات وبروتينات ومادة الأندروفين الذي يعتبر مسكنا طبيعيا للألم، وتساعد هذه المواد مجتمعة على طرد المواد السامة من الجسم مساعدة بذلك في تخفيف حدة الضغط النفسي. كما أنه في أثناء البكاء تزداد كمية الدمع المنهمر بمقدار يفوق المعدل الطبيعي بخمسين إلى مائة ضعف في الدقيقة، وتسكب العين وسطيا 5 ملليمترات من الدمع يوميا.

وقد أظهرت دراسة أجراها الدكتور ويليام فري إخصائي جراحات العيون بمركز أبحاث العيون والدموع في مينِسوتا بالولايات المتحـدة أن البكاء مفيد للصحة النفسية والعاطفية، وأنه من الخطأ أن نكبت رغبتنا في البكاء إذا واجهتنا ظروف تستدعي ذلك؛ فالدموع تلعب دورا حيويا ومهمًّا في التخفيف من التوتر النفسي الذي يمكن أن يتسبب في تفاقم بعض الأمراض مثل قرحة المعدة، وارتفاع ضغط الدم، والتهاب غشاء القولون المخاطي، وغيرها الكثير.

وربط الدكتور فري بين التوتر والبكاء عن طريق تحليل آلاف من قطرات الدموع، واكتشف أن الدموع تحتوي على هرمونات تنتجها أجسامنا حينما نخضع للتوتر النفسي، والبكاء يساعد في تقليل نسبة تلك الهرمونات تدريجيا، كما يقلل نسبة المغنيسيوم في الجسم والذي يؤثر على المزاج.

****************************** *************
البكاء من خشية الله.. تربية للقلب


القرآن والسنة

قال الله تعالى: "وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا" (الإسراء :109). وعن أبي أمامة رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس شيء أحب إلى اللهتعالى من قطرتين وأثرين: قطرة دموع من خشية الله وقطرة تهرق في سبيل الله، وأماالأثران فأثر في سبيل الله وأثر في فريضة من فرائض الله تعالى" (أخرجه الترمذي).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لايلج النار رجل بكى من خشية الله تعالى حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار فيسبيل الله ودخان جهنم" (أخرجه الترمذي). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولالله صلى الله عليه وسلم: "سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله..."، وذكرمنهم "ورجلا ذكر الله خاليا ففاضت عيناه: (متفق عليه).

سمتالصالحين
عن العرباض بن سارية قال: "وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلمموعظة سالت منها العيون ووجلت منها القلوب..." (أخرجه أحمد والترمذي).

وكانالضحاك بن مزاحم إذا أمسى بكى فيقال له ما يبكيك؟ فيقول: لا أدري ماذا صعد اليوم منعملي!.

وقال ثابت البناني: كنا نتبع الجنازة فما نرى إلا متقنعا باكيا أومتقنعا متفكرا.

وقال كعب الأحبار: لأن أبكي من خشية الله فتسيل دموعي علىوجنتي أحب إلى من أن أتصدق بوزني ذهبا.

وقال قتادة: كان العلاء بن زياد إذاأراد أن يقرأ القرآن ليعظ الناس بكى وإذا أوصى أجهش بالبكاء.

وقال الذهبي: كان ابن المنكدر إذا بكى مسح وجهه ولحيته من دموعه ويقول: بلغني أن النار لا تأكلموضعا مسته الدموع.

وعن يحيى بن بكير، قال: سألت الحسن بن صالح أن يصف لناغسل الميت فما قدرت عليه من البكاء.

وعن محمد بن المبارك، قال: كان سعيد بنعبد العزيز إذا فاتته صلاة الجماعة بكى.

وقال معاوية بن قرة: من يدلني علىرجل بكاء بالليل بسام بالنهار؟

وقال بكر بن عبد الله المزني: "من مثلك ياابن آدم خلي بينك وبين المحراب، تدخل منه إذا شئت وتناجي ربك، ليس بينك وبينه حجابولا ترجمان، إنما طيب المؤمن الماء المالح هذه الدموع فأين من يتطيبون بها؟.

مثيرات البكاء

1-
الخلوة الصالحة في أوقات إجابةالدعاء: فالخلوة الصالحة هي خليلة الصالحين والعبّاد وكل قلب يفتقر إلى خلوة، وأناهنا أنعتها بالصالحة وهي الخلوة التي يقصدها المرء بنية التعبد لله والخلوص لهسبحانه وتعالى قال الله سبحانه: "وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِتَبْتِيلاً".. وهذه الخلوة الصالحة يكون فيها التدبر في شأن الإنسان وحاله مع ربه،ويكون فيها محاسبة المرء لنفسه، ويكون فيها استدعاء تاريخ حياة كل واحد مع نفسهوفقط، وتكون فيها المصارحة والمكاشفة بين كل امرئ وقلبه، فيعرف مقامه وتقصيره وكمهو مذنب مقصر خطاء.. وعندها يسارع إلى الاستغفار والبكاء من خشيته سبحانه.

2-
الإنصات والتدبر للتذكرة والموعظة: فكم من كلمة طيبة كانت سببا في تغييرحياة إنسان من الغفلة إلى الاستقامة، وقد حذر العلماء من إغفال التذكرة وعدم التأثربها، فقال إبراهيم بن أدهم: علامة سواد القلوب ثلاث.. ذكر منها: ألا يجد المرء فيالتذكرة مألما!.. وكان الحسن إذا سمع القرآن قال: والله لا يؤمن عبد بهذا القرآنإلا حزن وذبل وإلا نصب وإلا ذاب وإلا تعب، وقال ذر لأبيه عمر بن ذر الهمداني: مابال المتكلمين يتكلمون فلا يبكي أحد فإذا تكلمت أنت يا أبت سمعت البكاء من ههناوههنا؟ فقال: يا ولدي ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة.

3-
محاسبةالجوارح ومخاطبتها: فعن أحمد بن إبراهيم قال: نظر يونس بن عبيد إلى قدميه عند موتهفبكى وقال: قدماي لم تغبرا في سبيل الله!، فهذه إذن حسرات الصالحين، حسرة يوم يذكرطاعة لم يتمها، وحسرة يوم يذكر خيرا لم يشارك فيه، وحسرة يوم يمر عليه وقت لا يذكرالله تعالى فيه، والحق إن في الحديث إلى الجوارح لاسترجاع لواقع المرء الحقيقي الذيغاب عنه، فينظر إلى كل جارحة من جوارحه ويخاطبها: كم من ذنب شاركت فيه؟ وكم من طاعةقصرت عنها؟ وكم من توبة تمنعت عنها؟ وكم من استغفار غفلت عنه؟.. ويذكر قول اللهتعالى: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْوَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْعَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ...} الآيات "فصلت".

البكاء والإخلاص

تساؤل يثار كثيرا حولالموقف من البكاء أمام الناس وفي حضرتهم رغم ما يمكن أن يكتنف هذا من التماس ببعضشبهات المراءاة للناس وتصوير النفس بالخشوع والتقوى، فكثير من الناس يمتنعون عن ذلكالبكاء ولا يبدونه مهما كانت الأحوال مخافة الاتهام بالرياء أو مخافة مداخلة النفسالعجب، وعلى جانب آخر يرى البعض أن البكاء في المجالس وفى المواعظ شيء طبيعي لأصحابالقلوب الرقيقة لا يمكن إنكاره أو اتهام صاحبه بسوء نية، فما هو الموقف الصائبإذن؟.

الناظر إلى أحوال السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تابعهم ونهجنهجهم من علماء الأمة ليرى بوضوح أن البكاء كان سمة مميزة لهم -كما سبق أن بينافيما سبق من آثار- بل أكثر من ذلك.. إن بعضهم كان ربما يظل طوال درس العلم الذييلقيه يظل يبكي حتى ينتهي، فيروي الإمام الذهبي عن أبي هارون قال: كان عون يحدثناولحيته ترتش بالدموع، وقال جعفر بن سليمان: كنت إذا رأيت وجه محمد بن واسع حسبت أنهوجه ثكلى.. إلى غير ذلك من الآثار المتكاثرة.

ولكن هناك أيضا من الآثار ماحض على إخفاء ذلك البكاء وجعله في الخلوة ومنفردا فقط: فعن محمد بن زيد قال: "رأيتأبا أمامة أتى على رجل في المسجد وهو ساجد يبكي في سجوده فقال له: أنت أنت لو كانهذا في بيتك"، وقال سفيان بن عيينة: "اكتم حسناتك كما تكتم سيئاتك"، بل نقل الذهبيعن عمران بن خالد قال سمعت محمد بن واسع يقول: إن كان الرجل ليبكي عشرين سنةوامرأته معه لا تعلم به.. إلى غير ذلك من الآثار.

وخلاصة القول في ذلك أنيعلم الإنسان نفسه البكاء من خشية الله وعند سماع الموعظة والذكر والتذكرة وعندمحاسبته لنفسه أو غير ذلك، والأصل في البكاء أن يكون في الوحدة ومنفردا وفيالخلوات، ولكن إذا كان المرء بين الناس وغلبه البكاء فلا شيء في ذلك أبدا إذا اطمأنمن نفسه الصدق والإخلاص بل إن ذلك كان حال الصالحين.

نصائحتربوية

1-
تهيئة البيئة التربوية الإيمانية مهمة في تربية المرءعلى رقة القلب واستشعار الخشوع واعتياد العين على البكاء، فلم يكن الصالحون يصلونإلى هذه الدرجة العالية من البكاء من خشية الله لولا أن هناك بيئة إيمانية تربواعليها وفيها أعانتهم على ذلك وتلك البيئة لها أكبر الأثر في التشجيع على الأعمالالصالحة والتربي عليها، والمربون الذين يهملون تهيئة تلك البيئة أو يتناسون أثرهاهم مخطئون ولا شك، يروي ابن الجوزي أن عمر بن عبد العزيز بكى ذات ليلة، فبكت فاطمةزوجته، فبكى أهل الدار لا يدري أولئك ما أبكى هؤلاء فلما تجلت عنهم العبرة سألوه ماأبكاك؟ فقال: ذكرت منصرف القوم بين يدي الله فريق في الجنة وفريق في السعير، فمازالوا يبكون!.

2-
أثر القدوة مهم جدا في التربية على تلك العبادة الصالحةفقد كان البكاؤون السابقون يجدون القدوة الصالحة في ذلك من معلميهم ومربيهم فكانوايتشبهون بهم إلى أن يصير العمل الصالح عندهم أساسا وأصلا، أما أن يبح صوت خطيب أومعلم يعظ الناس في البكاء والناس لم يروا عليه أبدا أثرا للبكاء فلا أثر لنصحهأبدا.

3-
يجب ألا يكون بكاء المرء على شيء من الدنيا فات أو صاحب فقد أومصيبة حدثت فذلك بكاء الدنيا وإنما مقصودنا هو بكاء الخشية من الله، وهو أن يكونباعث البكاء دائما هو خشية الله سبحانه وتوقيره والتقصير في حقه تعالى وكثرة ذنوبالعبد وخوف العاقبة، وقد كانت أسباب بكاء الصالحين السابقين تدور حول: تذكر ذنبهموسيئاتهم وآثار ذلك، أو التفكر في تقصيرهم تجاه ربهم سبحانه وما وراء ذلك، أو الخوفمن عذاب الله سبحانه وسوء الخاتمة أو الخوف من ألا تقبل أعمالهم الصالحة، أو الخوفمن الموت قبل الاستعداد له أو الشوق إلى الله سبحانه ومحبته، أو خوف الفتن ورجاءالثبات على دينهم أو رجاء قبول الدعاء.