نهار سعيد..
أخوتي الكرام, إليكم هذا النص الذي أرهقني كثيراً, واستأثر بتفكيري طويلاً, حتى تمت ولادته بعد عناء, لعلي قد نجحت..
في انتظار آرائكم ..
مودتي..
......
[c] أمــــــــــــل
في المشفى [/c]
في غرفة بيضاء كالثلج, تفوح برائحة كيميائية لوردة بيضاء مصنوعة, علا صوت غرغرتها وأنينها جرّاء إخراج أنابيب أُدخِلتْ لجوفها لإجراء غسيل مِعَدِيٍ لها, وفي أثناء ما كانتِ الممرضة تـُساعدها على النهوض هتفت بصوت أبحّ متقطع : إني أرجوك أيها الطبيب !!
وقد كان الطبيب في تلك الأثناء يتجّه إلى كرسي مكتبه قبل أن يطلب من الممرضة السماح لأخي "أمل" المنتظر خارج الغرفة بالدخول, إلى أن جلس على كرسيه و اتكأ بمرفقيه على سطح مكتبه ليقول لها وقد سكتت برهة:
- ماذا يا آنسة ؟!
أمعنت "أمل " في صمتها لحظات أُخَر, ولم تزل تجلس على حافة السرير محيطة عنقها بكفها تضغطه ألماً وكمداً:
- لا أريد لأحدٍ أن يعلم بما حصل, قل له أي شيء - أي شيء - لكن لا تخبره بحقيقة الأمر, إني أسألك بمن أقسمتَ به, لأذكرك بقسمك, فأنا المريضة أسألك كتمان أمر المرض.
ألجم الطبيب لحظاتٍ أشغل فيها نفسه بتناول ورقةٍ يصف فيها العلاج الذي قرره لـ" أمل ", قلـَّب رجاءها في ذهنه طوال هذه اللحظات, أنهى الكتابة, أسند رأسه إلى كفه, فدعك جبينه بأصابعه, ثم عاد ليرفع رأسه ليبصر "أمل " وقد علـّـقت عيناها نظرتيهما المتوسلتين بشفتيه تنتظر بلهفة الكلمات التي ستنفرج عنهما, ثم قال:
- وماذا لو كررتِ فعلتكِ هذه ثانية؟ بالتأكيد سوف أكون مخطئاً بإخفائي للحقيقة.
سخرت "أمل" من قول الطبيب بصوت متهدج تخنقه عبرة جاشت بها آلام صدرها:
- وأخي هو من سيتولى تقييد يديّ خلف ظهري بعد أن يُـلبسني ذلك الروب الأبيض ذو الأكمام الطويلة, روب مثل تلك التي يلبسونها في دُور المجانين, هل هذا ما ترمي إليه ؟!
- ما أرمي إليه يا آنسة هو واجب أخيك في مساعدتك, ألا يحبكِ كما تحبينه؟!
انتفضت لسماعها هذه الكلمات الرقيقة, وما لبثت إلا أن علا صوتها كأنما تبدلت إنساناً آخر, ثم قالت:
- كفاكَ هراءً فأنت لا تفهم !!
قد أخبرتك بما أريد وانتهى الأمر, وما عليك سوى أن تحترم رغبتي, وإلا فإنك سوف تفتح علي أبواباً جديدة للألم !
لم يبادرها الطبيب بأي رد, وإنما أشار إلى ممرضته بأن تأذن لأخيها بالدخول, والذي ما إن دخل حتى بادر بسؤال أخته: كيف أصبحتِ الآن؟
سرت في جسدها رعشةٌ بعد أن انساب صوته السائل بحنان في مسامعها, ثم قالت وهي تغالب دمعتها:
- أشعر بتحسن .
- مما تشكو أيها الطبيب, فقد فاجأتنا بصراخها ولم تكن تشكو قبل ذلك من شيء؟!
"لم تكن تشكو من شيء؟!
يا لبداهة عقلك, وعمق شعورك وإحساسك!!
كيف عرفتَ ذلك؟!" هكذا حدثت "أمل" نفسها.
- لعلها قرحة بسيطة سوف تساعد الأدوية هذه (ومد الورقة إليه) في زوالها قريباً.
تنفست "أمل" الصعداء, وهمّت بالاستعداد للخروج الذي استعجل عليه أخوها عندما طلب منها أن تتركه مع الطبيب لوحدهما.
خرجت "أمل" من الغرفة مطرقة تقفز عيناها من اليمين إلى اليسار والعكس
تفترسها أفكار جمّة, فثارت عليها مخاوفها من جديد, واستشرّ الألم في حلقها وصدرها وبطنها وكل مكان من جسدها, أخذت تلهث كمن يركض هرباً من قطارٍ خلفه, وراودتها نفسها بأن تطوي ممرات المشفى عدواً إلى الخارج, هرباً مما تتوجس خيفة منه, وجعلت تحدث نفسها:
" لاشك بأنه يخبره الآن بالحقيقة, لم تنطلي عليه الحيلة, إلهي رحمتك! "
ولم تزل كذلك حتى شعرت بالباب يُفتح من خلفها, انتفضت ووقفت في مكانها دون حراك, متظاهرة بعدم الانتباه.
سار أخوها أمامها ينوي الخروج دون أن ينبس ببنت شفة, وتبعته هي يعبران ممرات المشفى المؤدية للخارج والتي تطول وتطول, ولا صوت سوى لخطواتهما المتباطئة, ولأنينٍ تحبسه على مضض كلما حاولت أن تبتلع ريقها, كارهة لأن يراها أخوها تشكو ألماً هي من تسببتْ به لنفسها.
صدى الخطوات يتردد برتابة, خففت من سرعتها لتجعل أخيها يتقدم عنها مسافة قصيرة, ثم أخذت تمشي بهدوء مغمضة لعينيها, تنصت لصوت خَطـْـوِها, تراءى لها الممر طويلاً لا نهاية له, بأرضيته وجدرانه البيضاء, والنور الذي ينبعث من أقصاه, همست: لكم كنت أتمنى أن أمشي هذا الطريق إلى الـ لاوجود, أخذت تسير تأمل أن تقزّم الجدران حتى تختفي تماماً, فتكشف عن مساحة لا متناهية ناصعة البياض, ولم يكن من تلك الجدران إلا لتعلو, وتسرف في العلو والتقوس حتى حجبت النور تماما وبقيت هي في الظلام الدامس, وفي هذه اللحظة انتفضت و فتحت عينيها المغمضتين لتبصر نفسها في مواجهة للبوابة الخارجية, حولها أفراد وفي الخارج شارع وسيارات وضجيج عارم, كم تمنت لو أن تصرخ فتجبر الجميع على الصمت, هم دائماً يعيدونها للحياة!
وقفت برهة جعلت أخاها يتنبه لتأخرها عنه, فالتفت حوله يبحث عنها وقد أخذت خطواتـُها بالتراجع, فعاد لها, ثم أمسك بذراعها وخرجا معاً.
[c]============================[/c]
[c] في السيارة [/c]
وقف الصمت بين "أمل" وأخيها جداراً أصما, حتى استقلا السيارة, ليقول الأخ بهدوء كلفه جهداً كبيراً ليواري به غضبه وعدم رضاه:
- ألن تقولي الحقيقة ؟
- أية حقيقة؟
- لا تتظاهري بالغباء, لقد رأيتُ مخلفات ما تناولتِ في غرفتك.
- لا أعرف عن ماذا تتحدث!!
- حسناً أخبريني ممَّ كنتِ خائفة؟!
- لم أكن خائفة !!
انتفض غضباً, ومد يده ليمسك بذراعها يهزها, وبسبابة يده الأخرى يشير إلى عينيه, ويقول :
- انظري إلي هاهنا, وأجيبيني, لا بد من أنكِ اقترفت ذنباً تحاولين دفنه بقتل نفسك, أليس صحيحاً ما أقول؟!
- لا, ليس صحيحاً ...أرجوك دعني!!
- حسناً لن أحاسبك على ما فعلتِ أياً كان ذنبكِ, فما لقيته اليوم من آلام يكفي, لكن عديني بعدم تكرار فعلتك الشنيعة تلك.
أشاحتْ بوجهها نحو النافذة , وأمسكتْ بمقبض الباب بقوة آلمت كـفَّها , وصمتتْ تـُدافع الغصة التي تطعنُ حلقها فتزيدُها ألماً وحـُرقة, ولم تحفل بتكرار أخوها لطلبه, حتى قال:
عديني وإلا فإني سأعهد بالأمر لوالدينا.
فردت عليه بصوت يكاد لا يسمع:
- أعدك.
فنفض يديه من أمرها وسلّمه إليها, وأدار محرك سيارته عائداً لبيتهما.
[c]==============================[/c]
[c] في المنزل [/c]
عادا إلى المنزل , هناك تشعر برغبة مُـلِحَّـة في البكاء باستمرار ..
استقبلتهما الأم يكاد يذيبها القلق, والأب المُقعد على كرسيه كان يترقب حضورهما في صمت وقور, هتفت الأم :
- حبيبتي قد عدتِ إليّ, حبيبتي يا ابنتي.
واحتضنتها الرؤوم ودموع تطفئ تأجج نار الخوف في قلبها, و"أمل" تقف واجمةً ترقب الأحداث بصمت .
نادى الأب ابنه يسأله عن حال أخته, فما كان من الابن إلا ليقول لأبيه كما قال الطبيب له, فعاد الأب إلى غرفته وهو يلهج بدعاء الله وشكره على كل حال, واختفى الأخ من المكان فجأة متسللاً دون أن يشعر به أحد.
جذبت الأم ابنتها من يدها لتجلسها بجانبها على الأريكة وتقرأ عليها بضع آيات قرآنية تحفظها, وظلتا تنظران إلى بعضهما, الأم بنظرات الشفقة والحنان, و"أمل" بنظرتها الوجلة التي تخاف كل شيء والـلا شيء, شعرت بدفء الكف الذي تمسح به الأم أنحاء جسدها يسكن أوجاعها ويذيب جفنيها على عينيها, وسرعان ما عادت أصوات تقطن ذاكرتها تكرر ما أملته على مسامعها مراراً: أمها التي كانت تبوح للأب بهواجس تزيد من قلقها على ابنتها إذ تخطت السابعة والعشرين ولم تتوج زوجةً بعد.
أبوها الذي طالما أقلقه طريقها إلى مقر عملها كل يوم وعودتها منه, طريق طويل محفوف بالمخاطر, طالما كان يتمتم بكلمات تنم عن عدم رضاه ويختمها بأساه إذ قاوم قلبه الجلطة التي ألمت به, واكتفى بأن تتركه مقعداً عاجزاً فقط.
أخطاؤها الكثيرة التي لبستها ثوباً عجزت عن خلعه, سيئات كبلتها, إن حاولت تطهير نفسها من أدرانها أبى الكثيرون عليها ذلك, أصداء ضحكاتهم تجلجل في ذاكرتها, تسمعها وتكاد ترى أفواههم الفاغرة كـكهوفٍ تتكدس فيها الجيف, أفواهٌ تصيح فيها رائحة الآثام التي شاركتهم إياها ذات ضلال.
كل تلك الأصوات كانت تعلو شيئاً فشيئاً حتى تحاصر كل بقعة من نور كانت تراها خلف جفنيها المسبلين حتى تطفئها, ولا زالت كذلك حتى نفضت رأسها بقوة وبادرت أمها لتقول بحدة:
- كفى, دعيني أذهب فأنا متعبة !
- لا بأس عليكِ يا ابنتي, سوف أترككِ لترتاحي, وإن احتجتِ إلى شيء تعالي إلي فأنا باقية هنا.
اتجهت مسرعة إلى غرفتها , ودفنت نفسها تحت فـُـرُشِـها تروي حزنها ملوحة و ألم, بكت حتى غشي عليها من النعاس ما غيَّبها جزئياً عن الحياة الساعات الباقية من ذاك النهار, وتبعتها ساعات الليل , ليقودها للصحو صوت يعاود الهمس في أذنها من جديد: (( أي الجنون ترغبين يا "أمل" ؟! ))
لتردد شفتين بهمس : الموت .. الموت .... !
ضباب كثيف يغشي عينيها, لم تستطع تمييز الوجوه ماعدا وجه وحيد جعلها تقفز من فراشها فجأة, تناولت الساعة التي تشير إلى الرابعة والنصف فجراً, نصف الساعة فاتت على موعد حضورها لتقلّها للمدرسة حيث تعملان, تداعت ذاكرتها لتكشف لها عن عهد قطعتاه سوياً, تعاضدتا على كل شيء حتى في فكرة الموت اشتركتا معاً, علا صوتها: لعلها نجحت !!
لم تستطع مقاومة دموعها التي أخذت تسيل على وجنتين شاحبتين أضمرهما الألم, وكأن سداً من الأوجاع قد انهار:
"إلهي خذ روحي معها, صديقتي لا تتركيني وحيدة أرجوكِ !!"
خطت مرتجفة نحو الهاتف, تناولته تقصد الاطمئنان عليها, سقط من كفها المرتجفة أرضاً, انحنت تلتقطه فانهارت على الأرض بعد أن خارت قواها وعجزت عن حملها ساقيها, أمسكت به وهي تشهق أنفاسها, طلبت الرقم بعد عناء, هاتفها مقفل..
- إذاً لم تأتِ!!
تحاملت على نفسها ووقفت تمشي نحو المرحاض, بحثت عن أي شيء, أي شيء يمكنه أن يأخذها حيث صديقتها ويخلصها من رذيلة الخيانة, المكان خالٍ من كل شيء..
" لا زال الناس يحاولون منعي من تطهير نفسي من الرذائل "
تناولت زجاجة عطر وقذفت بها المرآة حتى كسرتها, ثم أخذت قطعة من شظاياها المتناثرة حولها بيدها اليمين وقطعت ناحية مفصل كفها الشمال وريدها, وسالت دماء "أمل".
[c] انتهى
الشمــــــــــس
[/c]