كائنان من جزيرة ديامو

محسن يونس

( 1 ) تصدى فأر خرج من جحره الكائن فى جسم العلاية ، لسحلية كانت تتلوى فوق الرمال فى الوسعاية ، قال الفأر : " قفي حيث أنت .. ستكونين طعاما لي .. "

انتفضت السحلية ، ونترت برجلها عدة رميلات طالت بعضها وجه الفأر قائلة : " لو تقدمت خطوة سأغرقك فى هذه الرمال "

كيف تحدث سحلية فأرا بهذه اللهجة ؟! هذه اللهجة جعلت شوارب الفأر تضطرب ، وقبل أن يستوعب الموقف سمعها تقول : " خفت يا جبان ؟ "

صرخ الفأر ، وقد رأى الدنيا عتماء : " أنت تزحفين على بطنك .. ومن يزحف قليل الشأن يا حسرة .. "

دافعت السحلية عن نفسها مرتين .. مرة حين قالت للفأر : " أنت لص .. طبع اللصوصية فى جنس الفئران .. " .. ثم حلى لها التباهي فقالت : " أطفال ديامو يقولون إن فى بطنى مفتاح الجنة .. "

قهقه الفأر هازئا ، وغنى ساخرا : " مفتاحي يا مفتاحي .. أكله الصدأ .. "

لماذا لا تغنى السحلية هى أيضا : " مفتاحي يا مفتاحي .. سرقه الفأر اللص .. "

- شكلك قبيح ..

- يعنى شكلك اسم الله عليه ؟! ..

- اخرسي ..

- اخرس ..

أين المشكلة بالضبط ؟!

كيف بدأت ؟ .. وكيف انتهت ؟ .. لا .. لا .. ليس لها انتهاء ، لأننا فى ديامو ما زلنا نسمع أصوات المعمعة كل يوم .



( 2 ) الأمر غريب حقا ، وفى نفس الأمكنة ، يقف الفأر على الأرض الصلبة لجسم العلاية ، بينما تكون السحلية فى حماية الرمال ، قد يسبق أحدهما الآخر فينتظر ، وحين يتواجهان تبدأ الصيحات : أما زلت تعيش أيها اللص ؟! كانت السحلية الآن هى التى تبادر بالهجوم ..

وفى كل مرة تنتاب الفأر الصدمة ، فلسان هذه السحلية سليط ، لا تعرف صاحبته الرحمة ، ويرد منتفضا : مازلت أعيش لأقضى عليك .. تقهقه السحلية ، فقد أوقعت به قائلة : وإذا جاءك الموت فأخذك .. ماذا سأفعل أنا ؟ يتذكر الفأر وهو يتقدم ناحية السحلية ، وفى آخر لحظة أنه يسعى فعلا لحتفه ، فيتوقف قائلا: الموت سيأخذك أنت على يدى أيتها الحمقاء .. جاءت الفكرة للفأر فنفذها فورا ، ارتمى على ظهره ، ونفخ بطنه ، ورفع أقدامه الأربعة إلى أعلى ، وظل على هذا الوضع حتى أن النمل صعد إلى رأسه ومر فى صفوفه المنتظمة بالقرب من عينيه ، وبالقرب من فتحتى أنفه ، وهو مستقر على حاله منتظرا نتيجة حتمية تعلمها من أبويه منذ زمن ، وكانت تنجح ، ويحصد الجوائز ، وتمتلىء بطنه بضحايا النوايا الحسنة ، الآن صار الفأر مقتنعا أن لا شىء حتمى فى هذه الحياة التى تحت السماء ، وياله من اكتشاف ، نعرف نحن أهل ديامو أن بعضنا رغم وضوح الاكتشاف الذى اكتشفه الفأر لتوه ، يظل مغلقا كل الأبواب ، إلا بابا واحدا هو الذى ينفذ من فتحته إلى وسع الحياة التى تغيظ هذا البعض بتوالدها المستمر ، وأبوابها التى لا تعد ولا تحصى .. قلنا إن لله فى خلقه شئون ..

أما الفأر ففتح إحدى عينيه خلسة ، فوجد السحلية نائمة على الرمال واضعة رأسها على راحتها ، وجاءه صوتها مباشرة – هذه الخبيثة – لنقرأ الفاتحة على روح الممثل الفاشل ..

- أنت الفاشلة ..

- أنت أفضل منى فى الفشل ، وإذا حسبت المسألة بهذا الشكل فأكون أفضل منك ..

ربما كانت الشمس شديدة الحرارة فتهرب السحلية من لفحها إلى عمق الرمال ، أما الفأر فيدخل جحره حيث يهدأ لهاثه فى ذلك المكان المظلم الرطب ، وهو يشعر بأن دنياه منحته خسارة ، وهو الذى كان يثق بها دائما ، وكان يعتبر نفسه من المدللين المنتصرين ، صرخ الفأر _ ربما مر طيف السحلية بذهنه _ لن أتركها أبدأ ..

( 3 ) كنا نرى الفأر يسير تائها غير عابىء بمخاطر الطريق وعثراته ، كأنه يقول : من أراد اصطيادى فأهلا به ، ومن أراد دعسى فعليه أن يفعلها سريعة خاطفة .. كان يترنح من يمين إلى يسار ، ويغنى كسكران : مسكين وحالى عدم .. حالى عدم أنا مسكين .. مسكين عدم حالى .. هل يشعر بمرارة الهزيمة حتى يخلط ؟! رآه قط ديامو الأعور المسخة بين قطط الجزيرة ، وكانت اللعبة تبدو أنها لن تنتهى ، لم يأكله ، ولم يخنقه أو يمزقه ، بل ظل نصف نهار يطلقه من بين براثنه ، ثم يلاحقه .. يضربه الضربة ، يطير الفأر على أثرها فى الهواء ، ويتلقاه القط على مخلب واحد من مخالب قدمه ، وعلى خلفيته مرة ، ومرة بين فخذيه معرضا الفأر لإهانة شديدة ، كان الفأر هو الكائن من أربعة .. يدرى ويدرى أنه يدرى فذلك ما يجب على القابض مصيره ، أو يدرى ولا يدرى أنه يدرى فذلك هو النائم ، أو لا يدرى ويدرى أنه يدرى فذلك راشد يحتاج إلى النصيحة ، أو لا يدرى ولا يدرى أنه لا يدرى وهذا جاهل يجتنب ويرفض .. فأى كائن من هؤلاء كان فأرنا ؟! مسكين وعدم حالى .. مسكين وحالى عدم .. عدم .. مسكين حالى .. الصحيح أنه ليس من هؤلاء الأربعة بل هو كائن خامس .. هو عاشق ونقسم على هذا ..

( 4 ) فى هذا اليوم وفى نفس الموعد والمكان كان اللقاء ، لم يتكلما كالعادة ، بل ظل ينظران لبعضهما ، تنهد الفأر أخيرا ، وقال : أنا أحبك .. ولا أطيق البعاد عنك ..

احمر وجه السحلية ، وظهر اللون الأحمر جليا بديلا عن لونها الأصفر المشرب بالأخضر ..

غمغمت السحلية بشىء لم يتبينه الفأر ، فاستوضحها قائلا : هل .. ؟

أفاقت السحلية من المخدر الذى خدر مشاعرها ، وصاحت : أحبك برص وعشرة خرس .. ماذا تقول أيها الأحمق ؟!

كان الفأر رقيقا : محبة بعد عداوة ..اعلنى عن مشاعرك .. لا تخجلى ..

الآن تروح السحلية وتجىء محبوسة فى سجن لا يتسع إلا لجسدها الضئيل ، تتبادل أقدامها الأربعة خطوة للأمام ، وخطوة للخلف ، هل السماء بعيدة ؟ اقتربى بسقفك من رأسى .. هل الفضاء لانهائى ؟ هو مدى نظرى .. قالت : أنت تسحرنى !!

قال الفأر : يا ليتنى ساحر ..

تدللت : ماذا كنت تفعل ؟

قال : أخطفك إلى حضنى ..

قالت وهى تغلق عينيها نصف إغلاقة : بدأت تحلو فى عينى ..

ما رأيناه ، وسمعناه شىء كنا نظن أنه من باب التلفيق ، والنفاق ، قلنا : صارت الطبيعة تأتى بأفعال ليس لنا بها معرفة أو تجربة مسبقة .. إذ زحفت السحلية نحو الفأر ، وتركت ساحتها الرمال ، كانت بين أحضان الفأر ..

لم يكن الفأر ممثلا فاشلا ، إذ تناول لحم السحلية ، وهو يضحك ، ويقول : فعلا من الحب ما قتل ، ولكن هذا للحمقى فقط .. أما الأذكياء فلهم نعم الحياة تزف إليهم ، وهم لا يتكلمون سبابا ، وحذلقة ، شجبا ورفضا ، بل يفعلون .

اللعنة عليك أيها الفأر فقد نطقت صدقا ، وفعلت أمرا ..