ألحان دموع المطر
****
***
**
*
دقت عقارب الساعة .. معلنة انتصاف الليل
أيقظتها دقاتها المضطربة .. الخائفة .. من سطوة الزمن
كان هدوء مخيف يحكم قبضته على الأجواء .. اختفت جميع الأصوات .. الهمسات .. لم يكن هناك سوى صوت حبات المطر .. تتهادى على الأرض لتعانق الزهر وتلثم التراب بعذوبة مائها ..
كانت تشعر بصداع رهيب يلازمها منذ فترة .. فامتدت يداها إلى علبة المسكن لتبتلع إحدى حباتها التي أدمنها دماغها وباتت تحتضنها معدتها أكثر من احتضانها للماء أو الطعام .. رغم المسكن لم يختفِ الصداع .. بل زاد مع ازدياد قوة المطر ..
شعرتْ برهبة وخوف وهي تستمع لتصاعد أنفاس المطر الغاضبة .. كأنه يعزف لحنه على زجاج نافذتها ليستفزها للخروج على شرفتها التي شهدت أجمل ذكرياتها .. وليالي السمر الراحلة .. حاولتْ الهروب .. وتكفين بعض حنينها لألحان المطر وإيقاع رقصاته .. قاومتْ كثيراً .. أرادت الهروب من الصوت الذي يعذبها ويعيدها لذكريات من قسوتها أدمنت النوم على المهدئات .. فالتصقتْ أكثر بغطائها وغرست رأسها في وسادتها محاولة قتل ذاك اللحن الحزين الذي يغزو أذنيها .. أرادتْ الهروب منه .. من الذكريات .. ودت التوغل في نفسها هرباً من نفسها .. والإبحار في مياه روحها مع روحها .. لكنه يأبى المطر ..
أخذت ترتجف .. كزهرة تعصف بأوراقها رياح قاسية .. وشفتاها تتمتم :
مطر .. مطر .. مطر
أغمضتْ عيناها تحاول الخروج من الحالة دون أن تدرك انغماسها فيها أكثر فأكثر .. وأخذتْ تتساءل :
لمَ يلاحقني المطر بسياط أحزانه !!
لمَ يصر على معاقبتي .. وجلد ذاكرتي !!
فرفعتْ رأسها من تحت الغطاء .. لتجد المطر يغزو عيناها بغزارة وحرارة لم تألفها برودة ليل الشتاء القارص !!
لمَ أبكي !! لمَ أتعذب !! أولم يكن قدراً!! أولم تكن مجرد سطور من كتاب مليء بالكلمات .. وفصلاً لا يختلف عن فصول معاناتي !!
وعادت تردد :
مالي والمطر ! مرت أعوام الطفولة !!
مالي والمطر ! رحل .. وانتهت قصته !!
مالي والمطر ! أوما زالت قوافل الهواء تلامس حنايا صدري !
مالي .. ومالي .. ومالي .. جيوش تغزو دماغها .. لتكمل زحفها حتى أبواب القلب لتقتحمه دون استئذان .. لتعيد شريطاً .. أودعتْه للذكريات ..
وتذكرت .. بل هزمتها ألحان الذكريات .. وأخذت تعرض عليها ذكريات المطر .. وهمست بحزن
" التقيته تحت المطر " !!
لهذا لا أملك أن أفكر بصوت المطر عندما يهطل .. فأسمع كلماته .. وألحانه هو .. مطر ..
كلما غنت السماء سمعت صوته ..
كلما أرعدت .. أرعد وجهه ..
كلما أبرقت عيناه .. وكلما هطل المطر !
لماذا سموك مطر!
ابتسم بحزن وأخذ يضرب الزجاج بقوة كأنه يريد اقتحامها ليضربها .. أمطر قبل أن يجيب وعرفتْ أن لابتسامته طعم دموع .. أراد أن يجيب لكنه لم يفعل .. أولت ذراعاه أن تنسيها السؤال .. لكنها التصقتْ بالبرد .. واغرقها صمت المكان .. إلا من صوت تساقط حبات المطر !!
وأخذ الشريط يدور بسرعة .. حتى توقف ليعرض آخر فصوله .. يوم ودعته تحت المطر !!
دفنته بتراب تزاوج مع حبات المطر !!
كانت ابتسامته الأخيرة .. لم يغير الزمن شيء من رقتها .. يوم غنيت للمطر .. وجدته يغني معي في ابتسامة .. لم أستطع احتمال هروبه إلى الابتسام من فعل كل شيء أحببت أن يفعله .. وابتدعت الرقص على أنغام الرذاذ لأخرجه من صمته .. من ابتسامته .. وأسمع ضحكه ..
ثم غنى .. فجاء المطر مختلفاً .. غنى .. ليحل الشتاء ببرده الزاحف نحو دفئه يتماوج بين قارص وحميم .. غنى .. راقب الهطول .. دون أن ينظر لعيني لئلا تعانق دموعي تلك الدموع التي تراقص أهدابه .. غنى .. مطر .. مطر !!
كيف أخبره بأن صوته يجعلني أغيب عن حقيقة بعده !! عن هطولي على وسادتي كلما شعرت بحنيني لابتسامته .. وسمع هطوله يغني .. مطر .. مطر .. مطر ..
لكنه رحل .. أدار وجهه عن ابتسامة مرة .. وهطل المطر ..
اختلطت أمطاره بعواصف جرحه ، لكنها لم تطفئ أياً من الحرائق لديه أو لديها .. عاد صوت الساعة يصرخ من جديد .. ليغيب الغناء .. والمطر تدريجياً ..
قررتْ أن تخرج من تلك الدوامة المريرة .. فذكريات رحلت مع بطلها عن واقعها منذ أعوام .. واستقر حاضناً للتراب .. دون صوت أو مطر ..
حاولتْ جاهدة أن تهرب منه .. من صوته .. لكن اللحن بقي يرافقه .. وبقي صوت هطول متناغم يأتي ويغيب .. يقصر ويطول .. يتماوج بعزفه على أوتار قلبها .. لكنه لم يتوقف ..
نظرتْ فجأت لشرفتها كأنها استيقظت من حلم .. كان المطر لا يزال يهطل .. وطيفه يذوب في سكون الليل .. ولم ترَ سوى ملامح من صور .. عينان فيهما بقايا مطر .. وظل ابتسامة ..
فهمست :
احتاج للهواء .. سئمت من تلك النسائم الحزينة التي تعانق صدري .. أرغب بهواء دافئ .. يرطب ويدفئ برودة القلب .. وخرجتْ شرفتها لتسلب السكون بعضاً من هوائه .. فلم تجد ..
سوى لحن دموع المطر
تحياتي