السلام عليك أختي الكريمة رحاب..
أعجبتني هذه المقارنة الناقدة المفرقة بين الجهاد المشروع وبين قتل معصومي الدم باسم الجهاد.
والحقيقة أن ما يميز هؤلاء هو الجهل الشديد بالشرع وأحكامه, وبحقيقة أقوال العلماء الذين يستندون إلى كلامهم في تبرير أفعالهم. فهؤلاء قد فهموا الأمرين فهما مغلوطا مجتزءا, وأخذوا من النصوص ومن كلام العلماء ما يؤيد أفعالهم الضالة وتركوا ما سواها. والطريقة الصحيحة هي أن يجمع كل ما قيل في الباب حول مسألة معينة؛ ليكون الحكم حينها متزنا وصوابا. فالشرع كله من عند الله, ولا يصح لأحد أن يأخذ من النصوص ما يشاء ويدع ما يشاء. وكم من نصوص عامة خصصت بنصوص أخرى, وكم من نصوص مطلقة قيدت بنصوص أخرى, وكم من نصوص مجملة بينت بنصوص أخرى, وكل هذا يغير الحكم الشرعي تماما. وهذا أيضا ينطبق على كلام العلماء حول مسألة معينة؛ فلا يصح أن يقال إن قول العالم الفلاني في مسألة هو كذا حتى نجمع كل ما قاله العالم عن تلك المسألة. فالعالم قد يطلق القول في مسألة معينة, ونجده يفصلها ويبين حقيقة ما يقصده في مكان آخر, مما يجعل نسبتنا قولا معينا عنه إلى ذلك الكلام العام أو المجمل - دون ما يخصصه أو يبينه- قصورا ونقصا, بل وكذبا على ذلك العالم. وهذا الفهم الخاطئ - سواء لنصوص الشرع أو كلام العلماء- أدى بهؤلاء الضلال إلى إنزاله على واقع لا ينطبق عليه ذلك الحكم الشرعي الذي فهموه – أصلا- على وجه خاطئ, مما يجعل حكمهم – بالتالي- خطأ.
وبالمثال يتضح المقال:
شارع من شوارع بغداد يكتظ بالعراقيين, وفيه دورية أمريكية أو نقطة تفتيش بها بضعة أشخاص, يحصل تفجير هائل يقصد به تلك الدورية أو نقطة التفتيش, يصاب منهم شخص أو شخصين, ويقتل جمع كبير من العراقيين الأبرياء, الذين لم يكن لهم ذنب إلا مرورهم في تلك اللحظة المشؤومة.
قد علمنا حجة قتل الأمريكيين, ولكن ماذا عمن قتل من العراقيين؟
التأصيل بسيط وواضح! فالفقهاء رحمهم الله ينصون على أن الكفار لو تترسوا بالمسلمين – أي: جعلوهم مثل الترس والدرع لهم لكي لا يصل إليهم المسلمون-, فإنه يجوز في تلك الحالة قتل هؤلاء المسلمين المتترس بهم, ويبعثون على نياتهم.
هذا هو "التأصيل الشرعي" الذي يذكره هؤلاء في أدبياتهم, بكل هذه البساطة, بل وبكل هذه الوقاحة!
والحقيقة أن هذا الكلام غير صحيح؛ وذلك أن مسألة التترس صحيح أن الفقهاء قد ذكروها ونصوا عليها في كتبهم, وهي أحد فروع القاعدة الفقهية التي تنص على أن الضرر الخاص يجوز ارتكابه لدفع ضررعام.
ولكن – وهنا يأتي الخلل في فهم أولئك الضلال, وأخذهم من كلام العلماء ما يوافق أهواءهم وتركهم ما سوى ذلك- الفقهاء عندما يذكرون مسألة التترس يذكرون لها شروطا وضوابط. ومن ذلك: أن قتل هذا "الترس" إنما هو في حالة المصافة, أي التقاء صف المسلمين بالأعداء, ثم يعمد العدو إلى التترس بمسلمين لكي يمنع الجيش الإسلامي من الوصول إليه. يقول الفقهاء: في هذه الحالة, وفي حالة أن عدم إزالة هذا "الترس" سيؤدي إلى إلحاق الضرر بالجيش الإسلامي – وهذا شرط ثان-, وفي حالة أنه لم يكن هناك أي طريقة أخرى للوصول إلى العدو إلا عن طريق قتل المسلمين المتترس بهم – وهذا شرط ثالث-؛ فإنه يجوز حينها قتل هؤلاء المسلمين تطبيقا للقاعدة السابقة, فيرتكب الضرر الخاص (قتل المسلمين المتترس بهم) لدفع الضرر العام عن جيش المسلمين.
ولو تأملنا مثالنا لوجدنا أنه لا تنطبق عليه هذه الشروط التي ذكرها الفقهاء حتى يصح الاستدلال بمسألة التترس على قتل هؤلاء المسلمين. فليس الحال حال مصافة ومواجهة, وليس – أصلا- هؤلاء الضلال هم جيش المسلمين الذي يخشى عليه الضرر, وليس لهم مزية على العراقي المدني لكي يقتل في سبيل بقائهم. ثم إنه يمكن الوصول إلى العدو بغير قتل هؤلاء المسلمين بأن يستهدفوا بشكل شخصي, لا عن طريق التفجيرات العشوائية التي لا تفرق, وقد قتلت من العراقيين أكثر مما قتلت من الأمريكيين. فالأصل هو تحريم دم المسلم, ولا تنتهك هذه الحرمة إلا في حال الضرورة لدفع مفسدة أكبر كما سبق.
وبهذا يتبين كيف يفهم هؤلاء كلام العلماء خطأ, وكيف يقطعونه عن سياقه ولا يعملونه كله بالشروط والضوابط التي يذكرها العلماء, مما ينتج عنه هذه الأفعال الضالة, ومن ثم يتبجحون بأن العالم الفلاني قال كذا, والعالم العلاني قال كذا, ولو رجعت إلى كتب هؤلاء العلماء ودققت لوجدت البون الشاسع بين ما ينقلونه عنهم وبين حقيقة قولهم.
ومسألة التترس هذه هي من حجج مفجري مجمع المحيا في الرياض, وغيرها من التفجيرات في السعودية, وقريب منه فنادق الأردن الأخيرة.
ومسألة التترس ليست المسألة الوحيدة التي ضل فيها هؤلاء, بل هناك مسألة التكفير وضوابطه, ومسألة موالاة الكفار, والديمقراطية والانتخابات, والتعامل مع الحكام, بل ومفهوم الجهاد من أصله..الخ, وكل هذه المسائل تشكل منظومة متكاملة من فقه إسلامي معوج, ظاهره آيات وأحاديث وأقوال علماء, وباطنه ضلال وجهل.
على أنه ينبغي علينا ألا نجعل بغضنا لهؤلاء وأفعالهم سبيلا لأن نترك العدل والإنصاف معهم, قال تعالى:"ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا, اعدلوا هو أقرب للتقوى". فالعدل واجب حتى مع المخالف, بل الآية كانت تتكلم عن المشركين, الذين كانوا ألد أعداء الدولة الإسلامية حينها, ومع ذلك أمرنا بالعدل معهم, وأن ذلك أقرب للتقوى. فالقول بأن هؤلاء ليسوا بمسلمين لا يصح من الناحية الشرعية؛ وذلك أن الأصل في هؤلاء هو الإسلام, ولا يمكن أن يخرجوا عن هذه الدائرة حتى يصدر منهم أمر مكفر. وقد تكلم العلماء – رحمهم الله- عن المكفرات وبينوها أيما بيان, ولم يذكروا – وهذا إجماع بينهم- أن قتل المسلمين يعد مما يكفر المرء به ويرتد. ولا أعلم أحدا من العلماء حكم على الزرقاوي وجماعته بالكفر, بل حتى ابن لادن والظواهري ..الخ ممن يشكلون المرجعية الفكرية لأفعال هؤلاء لا أعلم أحدا كفرهم, بل هم ضلال مفسدون. بل حتى الخوارج – الذين في هؤلاء شبه بهم من أوجه معينة- لم يكفرهم العلماء فيما أعلم, بل قال علي رضي الله عنه – وهو من أكثر من اكتوى بنارهم, بل وقتل على يد أحدهم- عندما سئل هل هم كفار, قال: من الكفر فروا. وقال عنهم: إخواننا بغوا علينا, فأثبت لهم الأخوة, التي لا تنتفي إلا حال الكفر, مما يدل على أنه يراهم مسلمين, مع أنهم قد استباحوا دماء المسلمين, وأعملوا فيهم القتل والذبح.
فمهما حصل من هؤلاء فإنهم يبقون إخوانا لنا, لهم علينا حقوق تجاههم. ومن هذه الحقوق حق النصرة.
حق النصرة؟!
نعم, حق النصرة.
كيف ننصر هؤلاء وقد قتلوا المسلمين واستباحوا دماءهم, وشوهوا صورتنا وصورة إسلامنا, واستعدوا شعوب الأرض علينا..الخ؟!
أقول: بل ننصرهم, وبأمر رسول الله عليه الصلاة والسلام, يقول عليه الصلاة والسلام – كما في البخاري عن أنس-:"انصر أخاك ظالما أو مظلوما. قال رجل: يا رسول الله, أنصره إذا كان مظلوما, أرأيت إن كان ظالما, كيف أنصره؟ قال: تحجزه – أو تمنعه- من الظلم, فإن ذلك نصره".
فهذا الذي ينبغي علينا مع هؤلاء الإخوة الظلمة, أن نمنعهم عن أفعالهم الظالمة هذه, وأن نأخذ على أيديهم, وأن نأطرهم على الحق أطرا وبالقوة. ولا نغفل أن نمنعم فكريا عن أفعالهم هذه, بمناقشتهم وحوارهم وجدالهم, وبيان حكم الإسلام الحق في أفعالهم, وضعف شبههم التي يستندون عليها في "شرعنة" أفعالهم الضالة هذه؛ طمعا في رجوعهم إلى الحق, وردعا لغيرهم من أن ينخدع بزيف دعاواهم الباطلة المغلفة بغلاف شرعي, وهي في حقيقتها أبعد ما تكون عن الشرع.
حمى الله الإسلام والمسلمين من شر هؤلاء.
شكرا, والسلام عليكم.