تاريخ التسجيل :
Aug 2005
رقم العضوية : 4198
الاقامة : ليبيا
المشاركات : 14
هواياتى : الكتابة والمطالعة المستمرة
MMS :
الحالة
غير متصل
معدل تقييم المستوى : 0
Array
لم يعد للقيمة ثمن.
إنه ذلك الكهل الذي عاش على الكفاف من العيشز يحلو أن يجالس المشائخ. يراقب بحدة نظرة الأطفال وهم يلعبون بجانب الحديقة يطاردون الفراشات الزاهية الألوان. كان يتذكر أيام طفولته بغنائهم وألعابهم البريئة، يتذكر والدته وهي تناديهم وتسعد بشقائها لسعادتهم وتلك الابتسامة التي لم يستطع رؤيتها أبداً علي ثغر النساء اليوم. إنها علامة الرضى بالعيش والسعادة مع الفقر، والقناعة مع القلة والهناء والراحة. تذكر ذلك الفارس، وهو يقبل من خلف تلة النصراني كما يطلق عليها أهل النجع لأنه مدفون في ترابها طبيب نصراني كان يعيش في وئام مع أهلها الطيبين. تحسس حنان يده علي كتفه، وقبلته الحارة وخشونة نظراته إليه. لم يعرف كيف تجتمع الخشونة والليونة فيه، لم يعرف إلا عندما رزق بأولاد. وتمر الذكريات في شريط طويل بلا نهاية، لأن الذكريات الجميلة لا تموت. وسط تلك الأجواء وقف عابس الوجه الذي تركت فيه السنين آثارها لا تخطه عين. كان ذهنه يمتلئ بمشاكل اعتاد مخه البسيط علي حملها وطيها في داخله بكبرياء، كان أحدها مشكلة الأثاث، وآه من الأثاث وما يتبعه من هموم ربما تكون صغيرة في عقل الأم المحترمة، لكنها قاهرة في الأب المسكين. إنها تراجيديا مختلفة عما نعرفه، إنها مأساة مجتمع بأكمله. لقد أسماها فلسفة الأثاث ربما مرض عقله من سببها لكنه سليم من وجهة نظره على أقل تقدير. حللها في هذه الأيام في كل بيت تقع فيه فرحة زواج بالنسبة للفتاة التي أصبح وهم العزوبية خيال قاتل لها، ومن ثم تبدأ رحلة العذاب الطويلة والتي تنهك البهيمة فما بالك الإنسان المتقلب دائما مع أهواء المناخ البيئي، يصيبك الذهول من أنواع الأثاث، ذلك فرنسي وآخر إيطالي وذاك نمساوي وآخر أبيض كالثلج وثاني أحمر كجهنم تحرق جيوب الفقراء وثالث أصفر يصيب جيوبك بالغيرة والقهر. تدفعك زوجتك بنظرة من عينياها أن تخرج كل ما في جيبك وتضعها تحت السمع والطاعة وفوقها شيك مصدق بتعاستك وتصرف أموال كل ذلك حتى لا تكسر بخاطر البنت، وآه من البنت فهي حساسة ورقيقة، ولذلك يجب أن نخرج معها أسطول كامل من سيارات الأثاث والمطبخ، ولا تنس صالة استقبال الضيوف، ولا تنس أن تودع ابنتك بابتسامة تفرحها وأنت تبكي من الداخل جراء الديون ونظرات الدائنين لك، تطاردك دنانيرهم في الأحلام والصلاة والأكل حتى في قبرك إن لم تنجو من صياحهم فيك.
كل ما يحتفظ به من أموال بعثرها في أسواق الربا والتجارة الفاسدة، صالونات عربية وأخري إفرنجية، طاقم صيني وياباني للحفاظ علي الصحة، فرش أرضي وآخر سمائي. كثرة حركتك في الأسواق تجعلك خبيراً بكل ما يلزم من حاجات البيت بشرط بدون علم حكام المنزل الذي ليس منهم لأن الله لم يخلقه ناعم.
" الجهاز يا محمد" .. آه من تلك الكلمة، كم كره فقره وتمنى الموت علي فقره البائس. كان يقول لابنته: "لا تخافي أنني أسيطر علي الأمور"، اعتاد علي مشاهدة ابنته وهي تترنم بأهازيج الفرح وتعلو شفتيها الجميلة ابتسامة عذبة ربما هي ملامح بسمة مفقودة لجدتها الراحلة عن حياتنا، ولكن ومع كل ذلك يصبح يومه لا يطاق وهو يسير خلف الجنرال القديم في السوق صباح مساء بجانبه تسأل عن قطع الأثاث الباهظة الثمن بأسلوب تعرفه كل النساء في العالم .. ومع كل ذلك فشلت محاولاته في إيجاد أثاث مناسب بشكل مناسب وهي عبارة حدثه بها أو لعلها متشابها لشيء لم يتذكره جيداً في وسط حيرته وذهوله. غادر المعرض بعد أن ترك لها أحد أبنائه الكبار وقادته قدماه المتعبة إلي منزله القديم الذي قدمته لهم الدولة بعد خروج النصارى، ولم يزيد علي ذلك بل جلس علي أول صخرة صغيرة ملونة مربعة الشكل، ثم أخرج صرة قديمة ملفوفة جيدا ًبخيط رفيع وقديم. كانت قد تكونت في ذهنه أفكار لا رجعة فيها. فك الخيط عن الصرة وأخرج محتواها.
الأولي، كانت ورقة صفراء قديمة باهتة وهي رسالة من تكريم حروفها تنطق الوفاء والكبرياء، قرأ أول كلمة: المجاهد الوفي لقضيته .. أقفل الورقة وكتم حزنه العميق في صدره، هكذا علمه والده أن يشتد عند الشدائد.
الثانية، رصاصة نحاسية يعلوها القدم كان يحتفظ به والده لأنه أصيب بها في أول معركة ضد الاستعمار.
الثالثة، تلك القلادة الذهبية التي كان يرتديها في كل المناسبات الوطنية والدينية بفخر واعتزاز، عند هذا الموقف تمثل له وهو يقف شامخاً في ميدان المعركة يناضل، يقاتل، يرفع سلاحه باعتزاز كبير لأنه صاحب قضية وطنية. تذكر الأشياء .. الوطن، الحق، الشرف، الشجاعة، العدالة، قيم لم يعد لها ثمن. والإنسان أيضاً لم يعد يعرف جوهره .. تثاقلت نفسه في دفعه للنهوض نحو ذلك السوق من جديد الذي يأكل المهمشين فيه بعضهم البعض، لكنه أمام الكبرياء الذي جذبه جذباً من عذابه إلي السير مترنحاً خائفاً. ماذا يقول الناس عنه يبيع شرفه؟ ليس لحما لكي يبيعه، إنها الأزمة !! دق ناقوس الضمير في عقله يلومه يا سيد نفسك وتاريخك بلغت عزك بدماء أجدادك هكذا تفعل بدمهم ؟!.
انتفض وتحسس جسده بعنف وتسأل: أين هي الدماء؟ .. انتبه إلى نظرات الناس المشفقه لعلهم يعتقدون أنه مجنون. كم هو غريب هذا المجتمع الذي يجمع القسوة والرحمة في قلب واحد.
واصل سيره وهو يضغط على تلك القلادة، وكأنه يقاد إلى منصة الإعدام حتى انتهى إلى محل لصياغة وبيع الذهب، وقف أمام الصائغ وحدق فيه طويلاً ثم خطر له خاطر أن يتراجع بل يهرول بعيداً ولكنه تذكر ابتسامة ابنته جعلته يخرج القلادة بسرعة ويضعها أمام الجشع، ثم نظر إليه بانكسار والدموع تتجمع في عينيه وقال له: قلادة من الذهب الخالص للبيع .. للبيع .. ثم أغمي عليه.درنة – ليبيا
16 يناير 2005
إنني أفتح نوافدي للشمس و الريح و لكنني أتحدى أية ريح أن تقتلعني من جدوري
المهاتما غاندي .