من يُدرك المـــدى !
تمتد خطواته حول حدود المدى الممتد وتسرح روحه عبر تفاوت جنون الرماد …
أدرك قوانين الطبيعة وطلاسم الصحارى الموجودة منذ البدء السحري ، عرفهـــــا
كمن يعرف ذاته ، ذلك نتاج التعايش والانصهار الحتمي بهـا ،
تمتد خطواته وتتوارى خلفها كل الصحارى وكل الرمال الذي سكنته آلاف الأسئلة
وعلامات التعجب ، دون اكتراث تمـتد وتمـتد ليقطعها البحر الذي ثار وزمجـر في وجهه ..
بقي محدقاً للآهدوء عبر عنجهيات البحر .. وتساءل
( ما به هذا "الماء" .. ما هذه الغطرسة ؟!! )
هذا البدوي مازال يجهل البحر ..
ترى من أي عمق قد استفاق .. من أي بعيدٍ جاء ؟؟
لم يأبه بالبحر لأن ما بداخله بحر آخر من صحارى لا تحتوى أبداً ولا تحد ..
.. ثار البحر من هذا التجاهل الذي نسف أهميته .. كان يبعث بمرسلاتٍ من موج
ليقول .. " يا هذا أنا البحر " ..
في الجانب الآخر... رأى رجلين قد خرجـا من البـحر بقاربين عتيقين ، كـان أحد
الرجلين فرِحْ والآخر كان يبكي .. تساءل مجدداً
( أ هذه حدود فهم الصحارى التي بي .. حدود فهمي ؟! )
نظر لدربه الذي جاء منه .. وقال بهمس لتلك الدروب..
( أ في كل كائن عالم لا يقف إلا بالموت .. عالماً لا يشبه أي عالم آخر ؟! )
لم يكلمه أي من الخارجين من البحر .. فحينما يصل الإنسان أعلى مراتب الفرح
لا يستطيع أن ينضم الكلام وفي منتهى الحزن لا يقدر الكلام أن يدرك مدى الحزن
فيكون الصمت أيضاً قائماً هنا .. لم يرَ سوى كرات لؤلؤية بيد الفرِح وبيد الحزين
بقايا من أغراض إنسان لم يعد ..
ثار البحر مجدداً فأغرقه هنا بالغرابة ..أغرقه بجهله الذي دوخه عند حدود البحر
..كان يعتقد بأنه العالِم بكل شيء ..كان يعتقد ذلك ..
الجهل هنا هو عدم المعرفة والمعرفة أدراك
ومن خلال الإدراك نعرف مسبقاً الثواب والعقاب لكل الأمور التي نقوم بها ،
الإدراك يجنبنا أشياء نتائجها لا تحمد
عقباها والجهل لا مبالاة بما ستئول إليه الأمور؛ إذن للإدراك حدود وللجهل المدى
ذات بوح قال البحر له
( اسكني ..)
رد عليه متعجباً
( أنا رمال .. كيف أسكن البحر ؟!! )
قال له موضحاً
( ستطوقك الطرق الإسفلتية .. )
قال له بشموخ ..
( من يدرك المدى ؟! )
..
كان البحر يناديه بأسماء كل الغرباء عنه
روح البدوي
المدى الترابي
الصحارى
( يا روح البدو ..أنا أجهلك ..فبك غموض يتوالد كل حين ؟! )
ما أجمل البحر حين يهدأ .. حين يرى من يوازيه بالعظمة .. من يستحق أن يتكلم معه البحر ..
( ما الذي تجهله بي ..!! )
( أجهل ما بجوفك ..)
( ما بجوفي موت وحياة ..! )
( أجهل حدودك ..)
( حدودي بداياتك ..! )
( ..أماسيك الممتدحة ..)
( أماسيّ الممتدحة ضربٌ من الجنون والبوح الصامت .. ليس شعراً بقدر ماهي صمت شاعري ..)
( .. لذة المطر حين يباغتك بعد عطاءٍ من جفاف )
( المطر ولذته .. عشقٍ أبدي يتفاوت الوصل به بمدى ما تسح به الغيوم ..)
صمت المحيط بعدما اتضحت له ملامح ذاك العالم .. فباغته محدثه ..
( لِمَ يا محيط لم تسألني عن ألمي .؟ ! )
تساءل المحيط متعجباً
( أ بهذا الشموخ ألم ..؟! )
( حينما يجتاحني الجفاف ..ويسكنني الجب وتهاجر طيوري وبعض روحي ..
حينما يواريني البدء خلف العالم ..لم يصلك سوى شطحات الشعراء المترفين ..)
… ذهل المحيط من نبل صديقه .. وأدرك أن الألم هو من يصوغ الشموخ ..
بعد صمت قال له روح البدو
( لكم أنت كريم أيها البحر .. تكرم من يموت بك قبل ذاك الذي يحيا بك ..أنت أيضاً بك موت وحياة .. )
هنا لوّح البدوي للبحر ..
( وداعاً يا صاحب المعالي .. )
===============
اجراس ..
كان فناراً يتلو لهم غروباً لم يراه ..
يتوضأ ببقايا النهار ..
يحترق بوحاً بحطب المساء ليعانق دخانه طائر المدى ويعلو صدقاً ..
اقتربوا لنعناع صوته المثخن بالخذلان ..
كان سؤالهم محموماً يقبع بأقصى صدورهم " لِمَ لا يتوسد حواري التيه .. ؟؟ "
.
.
اليوم يأتي هدير غرقٍ آخر ..
بوح حطبٍ يابس يستعر .. موت بشكلٍ آخر يختلف تماماً عن الموت ..
قال بعد رحلةِ ألف ليلةٍ من صمت ..
" حينما انطفأت عينيّ كان والدي يظن بأني لا أدرك حجم مأساتي وحجم السواد المترامي بمداي .."
صمت الفنار ليبتدئ بوحٌُ آخر .. بوح أجراس الخطى التي ترن إذا سجى ..بوح أجراسٍ مرت بغربةٍ معتمةٍ وبقارةٍ خاوية سوى من صدى أجراس ومرايا ..مرت عمراً طويل بأرواح كل من رحل وقد اشتعل بها رنين .. وقال ..
" حاول والدي أن يفهمني قدر استطاعته أشكال من وما حولي .. قذف بي للبحر فعرفت جزءاً من عظمته ..ملوحته .. لجته .."
قال أحد أصحاب الفنار مقاطعاً ..
" هل أدركت البحر بعدها ؟ "
رد عليه مبتسماً " من يدرك البحر ؟؟ " …
رفع نظارته من على عينيه .. أغمض عينيه ..مسح العرق المندى على وجهه وأكمل ..
" ذات بُعد اقتربت من جدي .. مسكت لحيته .. ضحك جدي شفقةً علي فضحكت معه شفقةً علي .. كنت انتظر الضحك من أي أحد لأبكي ضحكاً معه .. لذا ضحكت ولم أكن أعرف على ماذا اضحك .. هنا ثار والدي على ضحكات طفل أعمى .. ربما كان يعرف أنني أبكي ضحكاً .. فغضب وأخذني للبعيد .. … … .. وفي البعيد حين استوى السخط وغلى حفرت خطوات والدي أخاديد غضبٍ بدربنا ..قال " أبك .."
قلت له .. "لِمَ أبكي ؟ !! ؟
قال .. " لا بد أن تبكي لحالك .. "
قلت له " وما به حالي ؟ ! "
قال .. " أعمى .. "
قلت له .. " لِمَ أبكِ لأني أعمى ؟! "
قال .. " أبك الآن ولا تبكِ بعد رحيلي عنك .. لا تبكِ وحيد وتموت بعد موتي وأموت أنا مراراً هناك .. "
..
أكمل الفنار بوحه " وبعدنا عن الأصوات ورائحة الهيل .. سكنتُ سواد آخر .. سواد البُعد الذي كنت اشعر به حينما يلوح عليهم المسمى بالليل .. بعُدنا لاشيء بخطانا سوى أخاديد الغضب ودهشتي ولهاثٍ متعثر .. كانت يدا والدي المتشققة تحكي لي عن الحياة والغربة .. ذُقت دموع يديه فلم اشعر بسواهما ..
بعُدنا أنا ووالدي .. قال لي بعد بُعد
" أتبكي إذا تركتك هنا ؟ "
قلت له " لًمَ أبكي ؟! " ..
رحل دون أن يوضح لي شيء ..تركتني حيث لا صوت ولا رؤيا كل شيء كان مترامي الحزن والغربة .. مراراً كنت أدور حول نفسي .. مراراً كنت استجدي عطف أمي .. فجاءت أمي .. روح أجراس ترن من بعيد إلى البعيد .. دائماً كنت استدل الأشياء بهذه الأجراس .. دن .. دنننننن . دن .دن .دن … فأعود برحلة موج أجراس لدارنا ..والآن بعد بُعد تأتي الأجراس لي ضبابيةٍ كطيف بيني وبينه آلاف الرؤى .. جاذبتني أجراس أمي أطراف الضياع هناك .. تهبط لي من السمو بقرعٍ رتيب يشبه أنفاس الليالي الحزينة .. هناك تهت بالريح بالعتمة بالرمضاء وبأجراس أمي المنصبة من كل الجهات .. لملمتني شطآن السماء ..احتوت بدء جفافي وعادت بي لهم محمل بأجراس لم تهدأ بي .."
..
بعد صمتٍ ضحك الفنار عالياً وبعد كعكعته قال " ربما الجن هو من عاد بي فهو يسكن أجراس أمي "
.
.
كانت ياسمين روح المطر بالنسبة له ..
مداه الذي يسمع له ويغفو بحضنه .. كل فجر تأتيه لتلبس نظارته .. تقبله من أي وجهةٍ تتاح لها .. تُقبل نظارته ..شماغه .. دشداشته ..مسباحه .. ربما تبث له عطرها ليحيا ..
إذا ضربها أحد الأطفال تأتي للفنار وهي تبكي ..تقول ..
" بابا شوفهم يضربوني .. "
يرد عليها بحزن شفيف ..
ياليت أشوفك أنتِ أولاً "
.
.
قالوا له " هل رأيت الورود ؟ "
ضحك وقال " لا .. "
قال أحدهم ." إذاً لِمَ أسميتها ياسمين ؟ "
رد عليه وهو يضم طفلته لصدره ..
" ياسمين ليست من الورود بل عصفورة السماء تتلو شيئاً من همس المطر ووشوشات السحب والمدى وتأتي لي محملة بروعة السماء " ..
قال أحدهم " كيف رأيت العصافير والسماء والسحاب ؟ "
قال له وهو يمسك بيد ياسمين ويضرب بها يده ..
" لم يعد بي ظلام بعد نور ياسمين .. ياسمين تحكي لي .. ياسمين عيوني .."
… كانت ياسمين تقبل يده .. والجميع ينظر لها بدهشة .. هي رحمة الله ..
.
.
أصواتهم حين يمروا بمكانه الفارغ تنصت لصوته الشجي ..وهو يقول ..
" ليكن في حياتكم متسع من تأمل عالم اللآرؤيا … عالمي … "
.. أصواتهم كانت تختنق بعد رحيله .. كان بالنسبة له أملاً غريب .. بهذه الدنيا ..
جلس أحدهم بمكانه ..أغمض عينيه .. بكى بصمت .. وقال
" من قال أن الأعمى لا يرى . يا الله .. عالم آخر أكاد ألتمسه الآن ..أغمضوا عيونكم لتروا أرواحكم بصفاء … "
..
هبت الريح ..فهبت معها رنة أجراسٍ بعيدة .. قال أحدهم ..
" أقسم أنها روح الفنار .. مازالت هنا … جاءت من بعيد .. "
==========
إسحاق
رمل يمر بي
وشاحا يستجدي الترحال ليُدفن !
دربٌ طويل وحزين
كوجع النايات الراحلة للغروب
دون التفاف..
أنا المجنون أعلاه
المدفون منذ ألف عامٍ قبل م ولدي !
بصدور الموبوءين بالقسوة .
تشكوني هذه الأرض
نعم .. نعم
ذات غفوة أوجعتها بخبطي ..
نسيت حينها أن الأرض روح
استجديت غفرانها .. قبّلتُها
فأصبحت مجنونا !!
~~~~~~~~~~~
بعد ما مُت .. قالت لي
" عيونك وطني .. والخرابات تأسرني "
~~~~~~~~~~~
وقالت بعدما ماتت هي
" من على سديم فجرا نوراني
أقرءوك الحب ..
أحبك ولا أحد يدري
لئلا تدركني الخرابات
وأنا ميته .. "
~~~~~~~~~~~
وحينما جُننت .. بعد الموت
كانت المرسلات ترسل لي
غنائها
عطرها
وصوتها .. بعتبٍ شفيف
لِمَ لم تعد تراني
هل صدقت بأني مت كما يدعون؟
هل مت بك ..؟
خلف السماء أنا
وأنا عيون الأشياء حولك
جُن .. لتراني بوضوح
~~~~~~~~~~~
فجننت .. لأراها ..
والسلام ..
يا مساء الزنجبيل
والسوسن الراحل من مدى لآخر
قد كان ماكان وياماكان
الحزن يهطل مطر ..
كنت الأكثر هدوءا
~~~~~~ الأكثر ابتهاجا
~~~~~~~~~~~~ الأكثر حنانا
فأصبحت الأكثر شتااااااااااااااااات
يا زنجبيل الواحات
وحِداء الراحلين إلى اللاحدود
أهطل بمساءاتنا .. شيئا آخر يختلف
كما يهطل السمو بروح المطر ..
اكسر مرايا العيون بضحكةٍ صاااافية
وقل " لم أعد عاشقا ..لم أعد أنا أنا .. "
فأنت الآخر .. مرايا لذواتنا
ياحزن الغروب سمعناك ..
سأغني الليلة
سأنوم الليل بكم
سأوجع الصدور الموبوءة بالقسوة
.. لم يعد يهمني أي شيء
أصبحت كالأرض حافيا
وكالسماء .. شرفاتي النجوم
.. سأنام بعدما أغني
.. سأنام بهدوء
~~~~~~~~~~
قد كان ..
إن كنا سنستمع منك يا اسحاق
فلن نستطيع النوم أبدا !