[ALIGN=CENTER]
تسأل ملاذاً لبثينة في انتظار الشمس

صالحة غابش تكتب أمكنة البراءة والعزلة والتحرر



“خاو هذا العالم يا صديقي لا مكان فيه لشاعر

يملأ حقائبه بالقصائد

ويطارد سحابة بيضاء..”.

رغم صرخة الخواء المرعبة هذه، فإن عالم الشاعرة صالحة غابش، كما قرأناه في نصوصها، عالم ممتلئ حد الاحتشاد وازدحام العناصر، وربما ازدحام الأضداد، على ما يقول جدنا أبو العلاء. عالم صالحة غابش الشعري قد يكون مرآة لعوالم وتجارب تختزنها ذات قلقة شديدة التوتر على صعيد الداخل المضطرب بخيال شعري وهواجس إنسانية وخيارات

وتحولات عميقة وجذرية، تفتح الأبواب على روح متمردة أضناها تمردها ووضعها على حافة الاختيارات الصعبة. قصيدة صالحة تُظهر مدى غناها بالأمكنة، لكنها في الغالب الأمكنة المغلقة والضيقة والمحصورة بين الجدران والحواجز ووراء السواتر. أمكنة تبدو انعكاسات لرغبة عالية في الابتعاد والاعتكاف والاعتزال. ومن المعروف أن الأمكنة المغلقة هي تعبير عن مثل هذه الرغبة. ويستطيع قارئ قصائد صالحة أن يجد التمثيلات المتعددة لرغبتها في الهروب من العالم الذي فقد براءته، بدلاً من مواجهته والتصدي لخراباته، فهي تواجه خرابه وقذاراته بالشعر وحسب.



1- عوالم الشاعرة والقصيدة:

مقهى المهزومين، ردهات المدن المعزولة، هضاب الرؤية، خريطة المتاه، سواحل الفراغ، المغاصات، أحراش الشتاء، أمواج الألق، كثبان الصحراء، بيوت مهجورة، غابة قلقة، مدينة تعيش البحر، زجاجة القصيدة الخانقة، عرش العفة، حدائق، منابر، ظلال الشجر، القرية، القدس، النوافذ المغلقة..، بلاط المتاهة/ القصر، اللؤلؤ المتمحور في امرأة/ شارقيّتها حلم يتمهل في أعين العابرين.. ارتجاف تحت نوافذ قصر/ تزوره حمى الهزيمة.. حافة الخوف.. الخ، هذه هي بعض عوالم قصيدة صالحة غابش منذ بداياتها في مجموعتها الأولى “بانتظار الشمس” (1992)، و”المرايا ليست هي” (1997)، حتى “الآن عرفت” (1999)، وصولاً إلى آخر قصيدة في مجموعتها الرابعة “بمن يا بثين تلوذين؟” (2002).



2- خلاصات أولية:

هي بعض عوالمها، لأن عوالمها تذهب أبعد وأشد دقة وتدقيقاً في النظر إلى الكون والمكان والكائن. وتنقسم العوالم/ الأمكنة الخاصة هنا قسمين رئيسين؛ عوالم الأمكنة الأليفة والحميمة، وهذه في الغالب تنتمي إلى قيم ومبادئ وأفكار سامية كما أنها تعبر عن هذه المبادئ والقيم والأفكار، فهي أمكنة الطفولة والبراءة، وليس بالضرورة طفولة الشاعرة، بل ربما طفولة العالم نفسه. وثمة عوالم تنتمي إلى مجموعة الأمكنة المرفوضة والنابذة والطاردة، وهي الأمكنة التي تجسد التحولات السالبة وتعبر عنها.

في هذين العالمين المتناقضين سوف تتحرك هذه القراءة الأولية للصنيع الشعري لدى صالحة غابش. وفي هذين العالمين ستبحث القراءة عن صورة الشاعرة وملامح روحها وشظايا تجربتها النفسية والروحية، لعلها تُخرِج من بئر شعرها ما لا تقوله كلماتها إلا على نحو موارب ومكثف ومختزل. وتسعى القراءة كذلك للنبش في المتخيل والمستعاد من الذاكرة والمتأمل فيه، قدر ما تسعى لقراءة العلاقة بين الأزمنة المختلفة للأمكنة التي تجري قراءتها.



3- غابات وأشجار وغصون:

ليس حولي غير أكواخ الرمالِ

وقفارات رحيل وزيارات الليالي

وعيون خلف أحراش الشتاء

كل درب في رحاها لقرى الدفء يضيع

لم يباغتني النسيم

رافعاً وجهي إلى بيت النجوم

فأراك

حيث لا تدركك العين.. هناك

كل شيء ينزوي في عزلة الحس غريب

غير واحد

هو أنت

أنت وحدك لا تغيب

نستفتح بالغابات وما تنطوي عليه وما يدل عليها. وأول ما يقودنا إلى الغابة استعارة الأحراش للشتاء في قولها “عيون خلف أحراش الشتاء” التي تعبر فيها الشاعرة عن علاقة خاصة بالسماء وخالقها. وحيث تغيب الأشياء كلها في لحظة ولا يبقى سوى وجهه تعالى. ولكن لا شيء يحسم مستوى الرمزية في هذا النص الذي يحيل إلى الله.. أو القوة العظمى المتخفية في ذات الخالق.

وللغابة حضورات متعددة الشكل والصورة والمعنى والدلالة. فهي غابة حقيقية حيناً، مجازية حيناً آخر. كثيفة مرة، وخفيفة مرات. حميمة في موقف، ومرعبة في موقف آخر. غير أنها مكان للحب والحياة، حتى وإن كانت مخيفة وعازلة أو معزولة:

غابتي

لك هيأت أشجارها

وعصافيرها

ومسافات ماء تسير بمجهول أقدامها..

والغابة بما هي مكان مأهول بالحميمي والمشتهى من الكائنات النباتية والطائرة، فهي أيضاً المكان المسكون بما هو مظلم وعزلوي ومجهول المصير. ومن مفردات الغابة وتفاصيلها، أشجار وطيور ونخيل وظلال وعتمات. وهذه كلها توحي بالعلاقات الغامضة والملتبسة بين الكائن والكون، رغم ما فيها من حميمية وحب كبيرين.

وهنا نتوقف لنشير إلى أن هذا الغامض الملتبس هو درب نحو الخالق والعلاقة معه. وهي علاقة تتجسد عبر تمثيلات متعددة، ويجري التعبير عنها حتى على صعيد استخدام اللغة القرآنية العالية، فالزيتونة التي يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، تأتي في صيغة جديدة هي صورة “أوراق زيتونة.. زيتها كتب النور في درب من عبروا..”، وصورة مريم التي خاطبها الرب قائلاً “هزّي إليك بجذع النخلة تُساقط عليك رطباً جنياً” تأتي هنا لتقول إن المرأة نفسها أو صورتها “تقطف من حقلكم رطباً مريمياً”.

وفي إطار المقدس المشتبك مع القومي والوطني تأتي صورة القدس بوصفها رمزاً ومكاناً واقعياً في آن، فهي تعكس صورة من صور الانتفاضة الفلسطينية، انتفاضة الأقصى التي تظهر هنا في صورة ملثّم حيناً، وعبر عبارات مثل الجهاد والنصر حيناً، والسيف المجرّد من الصدأ حيناً ثالثاً، فالشاعرة تخاطب الحبيب الملثم:

جئني بقدس الحبيبة مهراً

وقل يا حبيبة إنّا انتصرنا

فهل قلبك العربيّ هدأ؟

وهي تظهر مرة أخرى في صورة صبية بقلب أخضر، تعبيراً عن الفتوة والقوة وما أنتجته الانتفاضة في نفوسنا وأرواحنا من انتصارات:

فؤادي فتي

ومن فيه ريب

ليبحث عن القدس فيه



4- تحولات التجربة:

في بداياتها، كانت التجربة الشعرية لدى صالحة تتسم بكونها متعددة المناخات والأحوال، ويؤشر هذا التعدد، أول ما يؤشر، إلى رغبة هائلة في الانطلاق والتعرف والتفتح على العالم والحياة. وفي قصائدها الأخيرة تعود الشاعرة لتعلن رغبة الانطلاق والتحرر ذاتها، ولكن على نحو مختلف. وما بين البداية وبين ما وصلت إليه في النهاية، كانت للشاعرة وقفة تأملية جعلت قصيدتها تميل إلى الاعتكاف على سبيل المراجعة وربما التراجع عن قدر من ذلك الانفتاح البدئي والبريء.

في البداية كانت هناك “أكواخ الرمال” وال “قفارات” و”أحراش الشتاء”، وأمرأة ترفع وجهها إلى “بيت النجوم”، وكانت “تشرد الأنجم في شاطئها”، نجوم تتشبه بالغزلان، والغزلان شاردة أو سارحة “تناديها المسارات البعيدة”، وأمرأة تشتهي زورقاً يمشي بها وحيدة “بين أمواج الألق”.. كانت هذه العناصر التي تؤشر إلى رغبة الانطلاق والتحرر، لكنها في الوقت نفسه تقرّ بحاجتها إلى وحدتها وعزلتها، فما من شريك لهذه التجربة ولهذه الرحلات والرغبات.

فهي قد تكون “هجرة إلى الله”.. هجرة حيوية ورحلة منطلقة ومتوهجة.

ولعل استعارة الشاعرة صوت الشرقية/ الشارقية ينتمي إلى هذا العالم، حيث يجري تتويجها في بلاط الشرق بوصفها صوت الأنثى الشرقية المحملة بتاريخه وذاكرته:

صوت امرأة تمشي في إثر نبي

يتبع ظل رسائلها

في صحراء انفلتت من قافلة البرد

حيث النار..

وحيث البعد يراقبها من فوق جبل

كانت تمشي في ظل رسالته..

إنها صورة من صور انتماء الشاعرة والشعر، وواحدة من لحظات تصوفها.

وعلى مقلب شعري/ ذاتيّ آخر، نقرأ منذ البدايات الأولى هواجس القلق والشتات والغربة، هواجس عن تحولات مدمرة أصابت الكون المحيط بالشاعرة، هي تحولات من حياة البادية والريف والقرية الهادئة الوادعة الحانية، إلى المدينة المترفة الحريرية. ففي هذا المقلب نشهد ما يشبه الضياع، الإنسان التائه في عوالم جديدة ومخيفة، هنا عالم نرى فيه “تلال الحب تاهت في صحاريه..”، وعالم نرى في “أريافه انسحبت جيوش العشق منهزمة”. فبعد أن كانت الصورة المهيمنة هي صورة الفتاة البريئة التي تطل من خلف النخيل، مأخوذة بهمس البحر، وترى في بلدها ذلك “السلام” السابح.. أخذت تحل محل هذه الصورة صورة تفتقد الحب.

في مرحلة تالية على مجموعتها الأولى “بانتظار الشمس”، تنتقل تجربة الشاعرة مع “المرايا ليست هي” نقلة نوعية على غير صعيد. تتكثف الغربة وتنفتح على أبعاد جديدة. الغربة هنا تغدو فكرية ونفسية ووجودية في آن. فيكون الهروب إلى الطفولة والاحتماء بأشجارها، وخصوصاً شجرة “الغاف” الصحراوية، حيث للشجر دلالاته الأكثر عمقاً واتساعاً.

وتمتزج في قصائد الشاعرة صور الكثبان العطشى بمشاهد الحقول النائمة والمواسم المختبئات وراء التلال، وتحضر من الذاكرة المتأرجحة رائحة الشتاء والموقد والمهرة والسائس والبيوت المهجورة سوى من الغبار، وتفوح رائحة الطين في الحقول البعيدة. وتحضر ذكريات دهشة السفر البحري وحلم الأزرق المفتوح على المجهول عمقاً واتساعاً، لتنتهي الرؤى عند المقولة الكبرى في سياق الغربة حيث نرى:

“خاوٍ هذا العالم يا صديقي

لا مكان فيه لشاعر يملأ حقائبه بالقصائد

ويطارد سحابة بيضاء”.

أما قصائدها الأخيرة، ففيها عودة إلى الانطلاق، وإن تكن عودة مشوبة بالحذر. ففي واحدة من هذه القصائد الأخيرة تقف الشاعرة لتعلن، مخاطبة ذاتها ربما، وربما كانت تخاطب “بطلة” قصيدتها بالقول:

“تعبتِ من الظلّ

والليل

والخطوة الحذرة” (مجموعتها الأخيرة “بمن يا بثين تلوذين؟” 2002).

إنها لحظة شديدة التعبير عما وصلت إليه القصيدة، والشاعرة ربما، من قلق مشروع ومشرّع على احتمالات كثيرة وبوابات بلا حصر. احتمالات وبوابات تفتح باب الشعر على عوالم جديدة تخدم تطوره وانتقاله إلى مرحلة جديدة ربما.



5- الخليج و.. البيوت:

من هذا المدخل البدئي، ومن دون أي تتابع زمني، ندخل إلى عوالم الشاعرة صالحة غابش وقصائدها وأمكنتها التي هي في الأغلب، كما قلت، أمكنة حميمة وقريبة وغير موحشة، لكنها الأمكنة الأكثر إثارة للضجر والأشد إثارة لمشاعر الوحدة والعزلة والبعد. فلننظر في قصائد المجموعات الأربع للشاعرة وكيف تحضر البيوت والخليج فيها.

في تناول هذه الأمكنة وما يشير إليها، سأحاول استقراء الدلالات الأساسية التي تحيل إليها القصائد عموماً، من دون الدخول في التفصيلات الصغيرة إلا حيثما استدعت الضرورات الفنية ذلك الدخول. وأبدأ بما أسميته العوالم والأمكنة المغلقة التي تحتل مساحة واسعة في تجربة صالحة الشعرية. وأول هذه الأمكنة هو “الخليج” نفسه، وهو رغم كونه مساحات مائية، غير أنه في الأساس منطقة شبه مغلقة بامتياز، فمياهه قادمة من أمكنة أخرى وليست أصيلة. هو كائن مغلق في جوانب عدة منه. مغلق على ذاته، ومنفتح على غيره. يرى الآخرين ولا يرونه. وهو ما ترغب فيه الشاعرة، أو امرأة القصيدة.

والخليج ليس من الأمكنة المغلقة المخيفة مثل القبو مثلاً، فالقبو رغم حميميته ودفئه، هو مكان مخيف ومرعب، وهو بيت الأشباح والصرخات القادمة من كائنات غريبة. لكن الخليج كائن أليف وحميم ومسكون بكائنات محببة. إلا أنه يظل المكان المغلق، وإذا انفتح فلا ينفتح إلا على أفق محدود. لكنه في مقلب من مقالبه أرض محبة واسعة:

هنا في الخليج

شروق بحجم المحبة

وأرض كعاطفة الأم رحبة

وفي الخليج نفسه تضعنا قصيدة صالحة في بيوت متنوعة. والبيت مهما اختلفت صفاته يبقى هو ركننا الذي نركن إليه، وهو كوننا الأول كما يقول غاستون باشلار. فلننظر في البيوت التي تخلقها رؤى الشاعرة ومخيلتها، وليس بالضرورة البيوت المتحققة في الواقع. فهي تضعنا في “بيت النوارس” حيناً، وفي “بيت اللؤلؤ” حيناً آخر. فبالنسبة إلى النوارس، يبدو اختيار “بيت” لها، وهي الطيور الطليقة التي تحمل دلالات الحرية والانطلاق والانفلات من القيود، ليس سوى تقييد لها ولحريتها ولطبيعتها التي ترفض البيوت. فالنوارس رمز لكل ما هو حر وغير مقيد وغير محدد بحدود. والبيت هو رمز القيد، حتى لو كان أليفاً وحميماً وضرورياً لبني البشر.

أما بيت اللؤلؤ، أو “المغاص” في لغة أهل الإمارات، فهو المكان الذي يعبر عن أعماق لا يبلغها إلا الغواصون - المغامرون، وفي هذا ما فيه من دلالات العتمة والابتعاد والتفرد. وهو، في الوقت نفسه، يعني البحث في “المغاص” عن المتفرد والغني والثمين. فليست مغامرة الغوص وراء اللؤلؤ بعيدة عن مغامرة الغوص في عالم الإنسان ودواخله المتحجبة، كما أنها مغامرة ترتبط بالبحث عن لغة وعوالم شعرية ذات فرادة وخصوصية.

في عالم الخليج هذا، العالم المغلق على ذاته، تبرز أحيانا بعض أحلام بمساحة “بين بحر جميل وأفق رقيق../ ولحن يغنيه طير طليق”.. في نبرة رومانسية حزينة وغاضبة، لأن الخليج الذي تعرفه لم يعد هو الخليج نفسه “أهَذي مياه الخليج؟ أهَذي التي هي بيت النوارس؟”.. في نبرة أسى وشجن لا تدري كيف تواجه تحولات الخليج المتسارعة، التحولات التي يجري التعبير عنها بوضوح وصراحة في إبادة الصفاء. وهي تحولات تطال الإنسان والكائنات جميعاً.

ففي لحظة من لحظات تحول المرأة، تغدو “مغاص” لؤلؤ أخضر.. حزينة، لكنها تتورد أكثر.. في لحظة ما بعد المطر.

ومن بيت النجوم، إلى بيت النوارس، حتى بيت الشِعر الذي تبنيه الشاعرة “ليسكنه الفقراء”، وصولاً إلى البيت الذي “تسكنه شاعرتان توّهتهما قليلاً أرجوحة الذاكرة القديمة”، وليس انتهاء بتلك البيوت المهجورة إلا من الغبار، ثمة الكثير من الصور التي تحيل إلى بيوت أليفة مرغوبة ومشتهاة، بيوت ربما كانت هي الفردوس المفقود الذي تهجس به شاعرة تشتهي أن تختلي بنجومها ونوارسها وصلوات عشقها العلويّ النقيّ المتعفف عن الدنيويّ.

هذه البيوت رمز العفة والبراءة، هي أيضاً رمز للاحتماء والأمان والتماسك، إذ من دونها يبدأ التشرد والتمزق. ولهذا ربما يجتمع الخوف من التشرد مع الرغبة في البيت.



6- أمكنة وفضاءات:

ثمة أمكنة أخرى تحضر في شعر صالحة، ولكنها ليست على القدر نفسه من الحضور الذي تمتلكه الأمكنة السالفة الذكر. ف “الفضاء” مكان من الأمكنة التي تمتلك حضوراً ما في القصيدة، وهو ليس الفضاء المخصص للطيور الطليقة، بل هو فضاء الشاعرة و”بطلة” قصيدتها. فضاء عرفته القصيدة وعاينت ملامحه وأبعاده كي تحيلنا إلى سفر ما، حتى لو كان سفراً “في غابتك القلقة”. حيث الغابة فضاء نفسي ومعنوي ينفتح على دلالات عدة كما ذكرت.

و”الخيمة” مكان آخر، نقيض البيت في أشياء وشبيهته في أمور أيضاً، وهي تحضر في صور متعددة من الماضي المبتعد بقسوة، وتجيء بدلالات كثيرة، وتمنح ظلالاً مختلطة للأشياء:

من أين جئت كيف مزقت يداك “خيمتي”

فالخيمة الممزقة ليست أقل من صورة من صور الذات التي سكنت هذه الخيمة، وشكلت الخيمة جزءاً من ذكرياتها. تقول امرأة القصيدة:

لعلني أنظم فوق خيمتي التي استبحتها ستائر الرجز وموقدي المحفوف بالشتاء ينتظر ان تنحني خطوتاك عن مسار القافلة يا حادي الرحيل ما زلت قرب موقد الشتاء انتظر.

والخيمة شوق إلى ماض لم يمضِ تماماً، بل هو عالق في الذات وأعماقها، هذه الذات التي ترفض المدينة والعصر وتتشوق لخيمتها:

تشتاقني خيمة علّقت في يديّ خيوط مغازلها

عندما اختطفتني غواية عصر

يلفّ القديم على خصره

ثم ينفض أوراقنا الخاسرة

وفي مقطع من مقاطع رحلة الشاعرة مع المكان، تغدة القصيدة نفسها مكاناً، فهي إذ تلوذ بالشعر لينقذها من العالم المحيط بها، ولا تجد ملاذاً سواه، تشعر بأنها تختنق بالقصيدة:

هذا زمن لا يعرف كيف يحبّ

فامتشقي قامة أخرى

تخرج بك من زجاجة القصيدة الخانقة

وتتكاثر الأمكنة وصورها، وتشتد العزلة على الشعر والشاعرة وهي تحاول أن تكون سواها، قبل “السقوط الأخير”، وحيث الشموع تترنح، والحنين إلى البراءة الأولى، والدعوة إلى البقاء خلف الرداء والاحتماء بالذات وإكمال الصلاة، لأن العالم كله من حولها مجرد ظلال تمر بالشاعرة أو ب “بطلة قصيدتها”، ولا تراها.

أخيراً، تختلط في تجربة صالحة غابش أنماط الشعر، وتتجاور الشعريات المختلفة في قصائدها. وتمتد المسافة من عمود التقليد الخليلي الذي يتخذ هنا صوراً جديدة، إلى التفعيلة السيابية الغنائية الملتبسة بالدرامية، وصولاً إلى القصيدة المتحررة من الأوزان والقوافي، والمتحررة كذلك من النماذج السائدة في قصيدة النثر العربية، وقد تجتمع الأنماط الثلاثة في نص واحد دون أن يظهر أي منها على وجه الخصوص. فما من مسطرة تقيس الشاعرة شعرها عليها، باستثناء مسطرة الدفقة الشعرية المحملة بروح الفكرة والهاجس والحلم.



[/ALIGN]