[ALIGN=CENTER]
“فتاة البرتقال” رواية جديدة للنرويجي جوستاين غاردر

يبدو الروائي النرويجي جوستاين غاردر مهجوساً بفكرة واحدة تستولي عليه وتحتل قريحته فلا يستطيع منها فكاكاً. والكتابة عنده، والحال هذه، تنويع على تلك الفكرة ومقاربة لها من وجوه عديدة. وهو كان احتفل بفكرته هذه، وبشكل عميق، في نصه الطويل “عالم صوفي” الذي صاغه في قالب روائي.

هناك اتكأ على مغامرات الفتاة الخيالية، صوفي أموندسن، البالغة من العمر أربعة عشر عاماً، كي يطرح أسئلته الفلسفية التي ما برحت تشغل ذهنه:

ما هو الإنسان؟

ما هو الكون؟

أين يمضي العالم؟....إلخ.

كأن النص الرواية ذريعة الكاتب لقول ما هو فلسفي والخوض في الأسئلة الكبرى عن الوجود والعدم والزمان والمكان. هي أسئلة خالدة تشغل العقل البشري منذ الأزل، وهي فوق ذلك تحتفظ بهالة من الغموض والقلق. والكاتب يعرف أن الغوص في هذه الأشياء والحفر في أعماقها يثيران الدهشة. وحتى تكون الدهشة شاملة والاستيلاء على ذهن القارئ كاملاً ينبغي أن تروى الأشياء في سرد حكائي ينطوي على فجوات يتسرب منها التوتر ويمكث فيها سر خفي يهرب من صفحة إلى صفحة.

هذه وسيلة جوستاين غاردر لبناء الحبكة الروائية. ثمة أسرار وخفايا وشخصيات غامضة ورسائل تأتي من مجهولين تجتمع لتنسج شبكة من الحوادث تحيط ببطل، أوبطلة، الرواية وتحبسه، أو تحبسها، فيها. يشيّد الكاتب الرواية في شكل لعبة معقدة وطريفة في آن، لعبة تقتضي من القارئ، الذي يصير لاعباً، اقتفاء الآثار وفك الألغاز وملاحقة الإشارات. عليه أيضاً التعرف شيئاً فشيئاً إلى قواعد اللعبة كي يتمكن أخيراً من فك الطلاسم والعثور على الحل الذي يأتي في شكل نهاية حاسمة للرواية واللعبة معاً وكإفراغ لشحنة التوتر التي ما برحت تتصاعد في صيرورة القراءة.

في رواية “عالم صوفي” انطلقت الفتاة الصغيرة صوفي في رحلة سحرية فلسفية غامضة بعد أن صارت تتلقى رسائل تأتي إلى صندوق بريدها من مجهول يطرح عليها أسئلة محيرة من نوع: من أنت؟، من أين انبثق العالم؟ ثم ان صوفي تتلقى بطاقات بريدية من مراقب الأمم المتحدة في لبنان. البطاقات مرسلة إلى ابنة المراقب هيلدا ولكنها تأتي إلى صندوق بريد صوفي. ومن خلال هذه البطاقات تتعرف صوفي إلى عالم الفتاة التي تكبرها بعام واحد وتشتبك حياتها بحياة الفتاة حتى تنبثق في أسئلة حائرة عن القدر وحرية الإنسان ومصيره وما شابه. في كل خطوة تخطوها الرواية ينهمر قدر كبير من المعارف والأفكار مسرودة في حزمة من التلميحات المدرسية ذات الصبغة الكلاسيكية ولكن بعد أن عدلت ملامحها بحيث تلوح في ثواب حداثي. هي حداثة تنزع من التكنيك الروائي حرارته ودراميته وتحوله إلى نوع من شرح فلسفي للأفكار الكبرى بقابلية روائية تجعل من البرود والترقب والانتظار عدتها في جذب الانتباه.

يبدو الروائي وكأنه يجمع بين ميل امبرتو ايكو إلى الإدهاش وسعي ستيفن هوبكينز، العالم الفلكي، في الإقناع. ولكن ليس قبل أن يضفي على المشهد لطافة اسكندنافية صارمة.

الرواية الجديدة لجوستاين غاردر،” فتاة البرتقال”، تلوح كما لو كانت جزءاً من رواية عالم صوفي أو، ربما، ملحقاً أو هامشاً إضافياً لها.

ها هنا يفرش الروائي أدواته وأشغاله من جديد ويستأنف اللعبة بالقواعد والإشارات والمرامي ذاتها. كأنه لم يستنفد ما كان يريد قوله في “عالم صوفي”. كأن الأسئلة تسمرت وتأبدت وتحولت إلى لازمة ينبغي أن تتكرر في كل كتابة.

بطل الرواية، جورج، فتى في الخامسة عشرة من عمره (مثل صوفي). كان والده توفي قبل أحد عشر عاماً، أي حين كان هو في الرابعة من العمر. الآن، بعد انصرام هذا الوقت، يعثر جورج، مع أفراد عائلته (أمه وزوجها الجديد وأخته من الزوج مريام) على رسالة كان كتبها والد جورج له. إنها رسالة من رجل ميت. رسالة تأتي من شخص لم يعد على قيد الحياة. رسالة طويلة يجلس جورج ليقرأها بعد أن أغلق باب غرفته على نفسه تاركاً الآخرين جالسين في الردهة ينتظرون بلهفة معرفة فحوى الرسالة.

هي رحلة جورج مع الرسالة إذن، (تماماً مثل رحلة صوفي مع الرسائل التي كانت تأتيها من مجهول). ورحلة القراءة هذه هي نفسها الرواية. قراءة جورج للرسالة تؤلف جسد الرواية، هيكلها وإطارها.

كتب والد جورج الرسالة لأنه كان يعرف أنه سيموت قريباً. كان مصاباً بمرض عضال لا شفاء منه. وهو أراد أن يتواصل مع جورج بعد موته لأن هذا التواصل لم يكن ممكناً وقت كتابة الرسالة فقد كان جورج مجرد طفل صغير.

يريد الوالد أن يروي لابنه حكاية فتاة أطلق عليها اسم فتاة البرتقال كان التقى بها في إحدى حافلات التراموي بأوسلو، مصادفة غريبة غيرت حياة الوالد، حيث تدخل فجأة فتاة تحمل كيساً كبيراً من الورق مملوءاً بحبات البرتقال إلى الحافلة. وفي أحد المنعطفات تتمايل الحافلة وتتأرجح الفتاة ويلوح لوالد جورج، الذي كان آنذاك شاباً في مقتبل العمر اسمه جان أولاف، أن الفتاة ستسقط فيسرع لضمها ولكن بدلاً من ذلك يطيح بكيس البرتقال. تتناثر حبات البرتقال في جنبات الحافلة كلها ويسقط في يد الشاب المسكين. في المحطة القادمة تنزل الفتاة يائسة وتختفي في الزحام. كان جان أولاف في السنة الأولى من دراسته الجامعية. كان في طريقه إلى غرفته في المدينة الجامعية. ولكنه يغير رأيه وبدلاً من الذهاب إلى البيت يقرر أن يبحث عن الفتاة.

ستمضي الرسالة على هذا النحو. بحث دائب عن الفتاة الغامضة كانت الفتاة في نظر جان أولاف إشارة سرية أرسلتها الأقدار إليه. لم يكن الأمر محض صدفة بل كان عملاً مدبراً من قوى خفية. وقد سحرته الفتاة بصمتها وسحنتها وكيس برتقالها الذي كان ثقيلاً للغاية. في بحثه عن الفتاة يروح الشاب الحائر كمن يبحث عن إبرة في كومة من القش. كيف له أن يعثر على فتاة غريبة وسط مدينة كبيرة مكونة من أعداد لاحصر لها من الأحياء والشوارع والساحات والمحلات ومكتظة بقدر هائل من الناس؟

في موازاة ذلك تروح الأسئلة تغزو ذهن جان أولاف عن بحث الإنسان في هذا العالم الكبير. أي سعي هذا الذي يدفع بالإنسان إلى الخوض في غمار رحلة فرضت عليه فرضاً في الوجود. فالإنسان لم يختر أن يحيا في هذا العالم. والمشوار الذي سيقطعه المرء في سني حياته لا يؤلف سوى مقدار شعرة إذا ما قيس بالزمن الكوني.

حسناً فعلت “دار المنى” حين عمدت إلى ترجمة هذه الرواية الجديدة لجوستن غاردر، مثلما كانت ترجمت عالم صوفي. فالنصوص التي ينجزها هذا الروائي، الذي كان أستاذاً لتاريخ الأفكار والفلسفة، جديرة بالقراءة والتمعن.

مع خالص تحياتي لكم
[/ALIGN]