الدور..حين يكون الموت انتظاراً!

د. محمد الحضيف

تعلمت من الأمريكيين -أثناء فترة دراستي هناك- أشياء كثيرة، لو طبق الأمريكيون بعضها الآن، لوفروا على أنفسهم ولوفروا علينا كثيراً من العناء، واحد من هذه الأشياء قولهم :

Too little ..Too Late
قليل جداً ، ومتأخر كثيراً

تذكرت هذه المقولة، لما قرأت خبراً عن نية الإدارة الأمريكية تأسيس قناة تلفزيونية فضائية، تهدف إلى (تحسين) صورة أمريكا في العالم الإسلامي، وتعمل جنباً إلى جنب مع المحطة الإذاعية العاملة الآن ..!!.
يقوم مفهوم العملية الإعلامية الأمريكية، الموجهة إلى المنطقة الآن، من خلال المؤسسات الإعلامية الأمريكية، أو عبر (وكلائها) في المنطقة، على (الإيحاء) بأن أمريكا لا تريد شراً بالمسلمين، وليس لديها موقف عدائي من الإسلام، ولا تطمع بثروات الخليج، وليست منحازة لدولة اليهود !!
تعتمد الحملة الأمريكية، في جزء منها، على إبراز هذه (المعاني)، من خلال حوارات مع مواطنين أمريكيين مسلمين، من أصول عربية، ومن خلال استكتاب (وكلاء) في المنطقة.. يتحدثون عن أمريكا الديمقراطية، الجميلة، (الطيبة).. ضحية (الإرهاب)..!
تعتمد السياسة الأمريكية (الموجهة) كذلك، على آلية (الإبهار) بإحداث نوع من الصدمة، وهي امتداد لحملة علاقات عامة، أطلقت في رمضان الماضي، ثم أوقفت لفشلها. كما تتبنى خلق شعور بـ (الدونية) لدى المتلقي، من خلال (إبهاره) بمستوى التقدم المادي الذي حققته أمريكا. إحساس المتلقي بتفوق أمريكا التقني والإداري، يتم عبر أساليب (الإيحاء)، وليس من خلال عملية (الحقن ) المباشر، التي تعتمد لغة الدعاية البدائية الفجة: ( نحن نملك.. نحن لدينا)، ثم تجول (كاميرا التصوير) على مشاهد مصطنعة، تخفي وراءها تاريخ (عريق) من الفساد والتخلف !!.
يتشكل الشعور لدى المتلقي، بهيمنة أمريكا و (فوقيتها)، من خلال العرض (العفوي) غير المقصود، لثقافة منتجة، تعتمد (التعددية)، واحترام الآخر، ولأسلوب حياة مدني، يحترم حقوق الإنسان، ومتقدم مادياً وتقنياً.. المتلقي محروم منه ..!!.
يتم توظيف الشعور بـ (فوقية) أمريكا و (تفوقها)، لتبرير ممارساتها وحملاتها العدوانية في المنطقة، وفي العالم بشكل عام، على أنه (فعل حضاري) لأمة متقدمة، يهدف لخير الشعوب، وحمايتها من الدكتاتوريات، ويمنحها الفرصة (التاريخية) لمراجعة ثقافتها المتخلفة ..!
من نافل القول التأكيد، على أن الحملة متهافتة وسخيفة، ولا تعدو أن تكون (تسويقاً) رخيصاً لتفوق تقني، ولتعددية ثقافية، وتسامح أمريكيين.
الموقف (التصالحي) مع ما يسمى الإسلام (المعتدل)- وهو ما تحاول الإدارة الأمريكية التظاهر به، مقابل حربها وحملتها على ما تسميه (الإرهاب)..- سقط بين أشلاء وأمام وحشية الحصار وحرب (التجويع)، التي حصدت أكثر من مليون طفل عراقي، كما انكشف زيفه في حربها السافرة، ضد كل ما هو إسلامي:
ابتداءً من محاصرة العمل الخيري الإسلامي، مروراً بـ (مشاريع) التغيير القسري الثقافي والاجتماعي، لمجتمعات المسلمين، ثم اعتقال رموز العمل الإسلامي، ووصمهم بالإرهاب، كما حدث مع المؤيد، القيادي الإسلامي اليمني ..!
حملة (تحسين) الصورة الأمريكية، موجهة للمسلمين (خارج) أمريكا، من خلال الحديث عن أمريكا، وعن أفراد المسلمين (داخل) أمريكا، لكن ماذا تصنع أمريكا بالمسلمين (خارج) أرضها، وماذا يلاقي المسلمون داخل أمريكا؟
هل أمريكا جادة في (تحسين) صورتها؟
وهل ما تفعله في حملتها (المذكورة)، يتسق وأبجديات عملية صناعة ( الصورة الذهنية) التي هي عماد أي حملة علاقات عامة، تهدف إلى خلق مواقف إيجابية ؟!
الأمريكان أساتذة في أساليب الدعاية والإقناع، وآليات تغيير ( الصورة الذهنية) وصياغتها، لكنهم هذه المرة يذكرونني بـ (المومس) التي تحث الناس على (الأخلاق) وتتحدث عن الفضيلة..!
قديماً ساق لنا أحد أساتذتنا البارزين في الإعلام، قصة تلخص قاعدة في هذا المجال. صياد اصطاد عدداً من الطيور، في يوم شديد البرودة –مثل أيامنا هذه-!! وبدأ يذبحها واحداً إثر الآخر، كانت عيونه أثناءها تدمع؛ من شدة البرد. أحد الطيور، الذي ينتظر في الدور، همس لصاحبه قائلاً: انظر لقد رقّ لحالنا.. إن عيونه تدمع..! ، أجابه صاحبه : لا تنظر إلى دموع عينيه، انظر إلى فعل يديه..!!
قصة (الصياد) و (الطيور)، ليست فقط تعبيراً صارخاً عن التناقض بين الشعار والممارسة، بل تصويراً مفزعاً لحال (العجز) من خلال التزام (الدور)، بانتظار (الموت)..!
كل (الطيور) تعرف أنها في صف، وأن العراق أول الصف ..!
إن شعارات أمريكا و (دموعها) حيال واقع العراق، لا تلغي حقيقة أن (السكين) الأمريكية مرفوعة على الجميع.. كل الذين في (الصف)..!
ليس لأنها فقط طيور (متماثلة)، بل أيضاً لأن (الصياد) الأمريكي صرّح بذلك أكثر من مناسبة، ملغياً أي فرصة للاحتمال، أو الافتراضات ..!!
لم يفكر الطائر في الصف أن يحلق، ولم يهمس في أذن صاحبه بخطة إنقاذ له، ولبقية أصحابه. كان يراهن على (دموع) الصياد، على زعمه، على دعاويه، على حملاته الإعلامية لتحسين صورته بإشاعة الديمقراطية، ونزع أسلحة الدمار الشامل..!.
حد السكين كان أكثر وميضاً، ووضوحاً من الدموع، لكن (الطائر) آثر أن يبقى في (الصف) بانتظار الموت ..!
في شتاتنا ( السبتمبري) الطويل، تتقنصنا أمريكا (طيوراً هزيلة)، شعوباً ودولاً، وتدمع من خلال حملاتها الإعلامية..
بيننا من يصفق أو ينتظر، ولا ينظر إلى (فعل يديها)..! غير مسموح أن (نتهامس) غير مسموح أن نرف بأجنحتنا؛ لكي لا نتهم بالجهاد والإرهاب..!
بيننا أيضاً من يحوم حول جراحاتنا و(جثث) أهله، وينعق، يستدعي العقبان الأمريكية؛ لتنهش في الأجساد المثخنة.
أمريكا رصدت 19 أو 29 مليون دولار، لا أتذكر.. لـ (الغربان) في (وصفنا)، التي تنعق للصياد الأمريكي، وهو يحز سكينه في رقابنا ويدمع، في حملة (تحسين) الصورة الأمريكية.
كتبت مرة عن (وهم الصورة الذهنية)، وأن ما ننفقه -أو نطالب بإنفاقه- على (حملات إعلامية)، لتحسين صورتنا الذهنية في الغرب، أنه مجرد (وهم) وعبث، لن يعود علينا بطائل، ولن يغير من موقف (القوم) منا، ما دمنا لم نغير من (واقعنا)، وبالتالي (موقعنا) الحواري.
ما دمنا لم نخرج من (الصف)، ونرفض (علاقة) الطيور والصياد..!
المنهج القرآني تجيء قبساته شديدة الضوء. حكى القرآن عن كفار العرب، الذين كانوا يعوذون بالجن (فزادوهم رهقا)..! بعض العرب كان (يصرح) بولاته لـ(كبراء) الجن؛ رغبة في (تحسين) صورته لديهم، وتأكيداً لتبعيته لهم، وحاجته لـ(حمايتهم)، فما زاد هؤلاء إلا إمعاناً في إذلالهم وإرهاقهم..!
دائماً ما يصرح القرآن أو يلمح، إلى (عجز) التبعية، وذلها، وفشلها.. في تأمين الحماية، أو تحقيق الكرامة، أو حفظ الحقوق..!
"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" ..
الابتداء من (الذات) أولاً ..!
يوم كتبت عن (وهم الصورة الذهنية) اختلف معي البعض ..!
ها أنذا أكتب عن حملة أمريكا أو حملاتها، وإنفاقها لتحسين صورتها، وأقول:
وهمّ ما تفعلون ..!
ستنفقونها، ثم تكون عليكم حسرة، ثم تغلبون..!
لقد نما بيننا وبينكم برزخ من الكراهية من فعل أيديكم..!
تُحسنون صورتكم بإنشاء محطات إذاعة وتلفزيون، ورائحة الدم والبارود تملأ فضاءنا :

It’s too Little.. To Late