وسط الزحام
- قصه قصيرة -
لابد انك تعرف من يكون....
لابد أن يكون وجهه الصغير قد طالعك....لا تدري متي ... ولا أين...ولكنك
تعرف انك قد رايته من قبل ... وانك ستراه مرة أخرى ...
هكذا كان بائع الجرائد الصغير..
ربما يطالعك وجهه في الميدان الكبير...وربما تقع عيناك عليه في الإشارة
وهو بتخطي السيارات التي تنتظر المسير... وربما تلقاه في الحافلة التي
تستقلها بابتسامته المميزة التي تجمع في تناقض عجيب ما بين البؤس والرضا
بالحال وملابسه الغير تقليديه التي تهبه برثاثتها واتساعها سنا يفوق سنه
الحقيقي بكثير.
وإذا ما رأيته حتما سيستوقفك ذلك ( العكاز ) الخشبي الضخم الذي استبدله أو
أبدله إياه الزمان كتعويض بخس عن ساقه المبتورة التي فقدها تحت عجلات
الترام يوما حينما كان يحاول التشبث به أثناء المسير.
ولابد انك ستنجذب نحو نداءه المميز ورزمه الجرائد التي تقبع تحت إبطه
أخبار.... أهرام .... جمهورية
لابد انك تعرفه وان كنت لا تدري ... لان الجميع يحفظ ملامحه التي تحفر
في الذاكرة من اللقاء الأول...
لابد انك تعرفه... فمن المؤكد انك اعتدت رؤيته كالجميع ... كأنه اصبح
جزءا هاما من معالم الطريق .. ربما إلى العمل ... أو الجامعة...
وحتما سيتباين إحساسك نحوه إذا ما رأيته ... هكذا حال الجميع ....!!!
فالبعض يبدي نحوه الشفقة ... والبعض ينتابه الشعور بالازدراء... وربما
تمادي البعض فتحسس موضع نقوده كأنما سيقدم حتما علي سرقته...!!
وربما اكتفي البعض عند رؤيته بالابتسام ....!
هكذا كان بائع الجرائد الصغير ... قد تراه خلسة في مكان ... لكنك حتما ل
تفكر من أين أتى ولا أين يذهب في نهاية النهار ...؟!
الكل اعتاد أن يراه وكفى ... و كأنه أحد معالم الطريق ... تمر عله دوما دون
أن تتساءل من يكون ...!!! أما هو بائع الجرائد الصغير.. فكان يسكن مع أسرته الصغيرة متواضعة
الحال ..
كان يعلم انه الركيزة الأولى في دخل هذه الأسرة .. لا يسانده إلا المبالغ
الزهيدة التي ربما تحصلت عليها والدته من عملها بالمنازل يوما أو
يومين .... هكذا كانت حياته ... وهكذا اعتاد أن تكون ... عبئا ثقيلا ... يقابله
يوما بالتذمر . ويوما أخرا بالابتسام ... ولكن مالا يستطيع أن ينكره انه اعتاد
هذه الحياة كأنما جبل عليها... اعتاد أن يستيقظ مبكرا .. اعتاد أن يجري
بعكازه ورجله الوحيدة خلف الحافلة ... اعتاد وجوه الناس وكل منهم يحمل
نحوه شعورا ما ... واعتاد اكثر كونه يتيما ... بلا أب...
أحيانا ما تكاثرت عليه الخطوب علي صغر سنه ... فلا يملك إلا أن ينعي
حاله ... و ينعي همومه الكثيرة .... وساقه الوحيدة التي تهربت رفيقتها من
إكمال الطريق ... كأنها تعلن الرفض لحاله ..
تدور به الدنيا دورتها ... يوما يشعر بأنه امتلك الدنيا ... ويوما يشعر بأنه
لاشي ... لكنه لا ينسي حلمه الأبدي في ألا تبيت أسرته يوما بلا عشاء ...
كان يصحو قبل النهار .. ثم يعود إلى بيته في العاشرة صباحا ... فلا يطالعه
إلا وجه جده العجوز الكامن في البهو في صمت ... قليلا ما يلقي عليه
نظره ... والأقل أن يسأل عن حاله ... !! فيلوي رغيفا علي ما يجده .. ثم
يهرع مرة ثانيه ليلحق بالجرائد المسائية ...
هكذا كانت حياته ... وهكذا اعتاد أن تكون ...
الى أن كان ذلك اليوم ...
كان يهرع مسرعا يقطع الميدان الكبير جيئة وذهابا ... وهو يردد بحماسه
الروتيني ...
أخبار ... أهرام ... جمهورية
يعطي هذا جريده ... ويناول تلك مجلة ... وهذا جريده أسبوعيه ..
قبل ان تتوقف عيناه عند تلك الورقة التي قبعت هادئة بالقرب من عجلات
إحدى السيارات ... اقترب منها وقد احتبست أنفاسه ... وازداد خفقان قلبه
حينما اكتشف إنها ورقة مالية من فئة العشرين جنيها ...! اختطفها كأنها كنز ثمين . وراح ينظر عن يمينه ويساره بحثا عمن يرقبه وهو
ينفض عنها التراب .. ولم يكد يطمئن إلى انشغال الأعين عنه حتى احتضنها
في كفه ... واندفع لا يلوي علي شيء ..
أمام محل الكباب توقف ...
تابع بعينيه المحل الفخم من خلف الواجهة الزجاجية...
تابع الرواد ما بين والج وخارج ...
حمل الهواء إليه الرائحة ... فشعر بخدر الجوع يسري في أوصاله ...
قرر أن يهرع إلى المحل ...
قرر أن يتمرد علي طعامه المعتاد ...
قرر أن يجاري علية القوم ...سيجلس فوق مائدة مميزه ويضع النقود أمامه حتى يعرف النادل كم يملك ..
من مال ...
اقترب بحذر من الباب الزجاجي ...
توقف قليلا ينظر إلى الرواد عن كثب وقد انهمك الجميع في الطعام ..
وبالقرب منه تابع أسره متجمعة علي إحدى الموائد .. فتذكر أسرته..
لم يكد ذكر أسرته يرد بباله حتى سرح بخياله .. وقتها أحس بالأنانية ..!
وقتها شعر انه آثر نفسه علي أسرته التي قدر له أن تكون كل ماله في
الحياة ...
فترة من السكون مرت عليه ... وقد تبدل به الحال ... فنسي نداء معدته
الجوعي ... وان لم تخفت رائحة الكباب من انفه ...
أدار وجهه للمحل وراح يدفع العكاز إلى الأمام تتبعه رجله الوحيدة ..
وفي طريق العودة ومع ذكر أسرته احتلت صورة أمه رأسه بوضوح ...
..................... ........................ .................
( الأشقياء في الدنيا بلا عدد أعظمهم شقاء ذلك الصابر الذي أرغمته ضرورات الحياة أن يهبط بآلامه إلى أعماق نفسه فيودعها هناك ويوصد دونا أبوابا من الصمت والكتمان ثم يخرج إلى الناس باش الوجه باسم الثغر متهللا مبتسما كأنما لا يحمل بين جنبيه هما ولا كمدا )
..................... ........................ .........................
كلما ضاقت به الدنيا تذكرها ... أمه ..
كلما شعر أن العالم يجثم علي صدره احتلت صورتها رأسه فشعر معها
بالراحة..
هي ليست فقط أمه ...
هي اكثر بكثير ...
انها محركه الأول للسير في الحياة ...
كلما تذكر ابتسامتها شعر بان هناك في الحياة ما يستحق أن يعيش لأجله ..
دائما ما تمني أن يحصل علي مبلغ كهذا ليشتري لها جلبابا جديدا بدلا من
ذلك الجلباب البالي الذي استهانت الحياة بخيوطه والذي تحرص علي ارتدائه
كأنما لا بديل ...
لكم هي حنون هذه الأم ...
لكم شعر بقوتها وبسالتها ...
لكم تحاملت علي نفسها من اجله ومن اجل أخته ...
أخته...
أخته ...
ترددت الكلمة بمخيلته طويلا ...
...................... ..................... ......................
( رائعة هي الطفولة .. نقيه كنقطه ندي .. طاهرة كقلب ملك .. لامعة ككوكب ساطع .. فما اقل أن نسمح لهذه الطفولة أن تبقي .. أن تنعم وتسعد .. فإنها أبدا لا تستحق الشقاء)
.................... ...................... ..............
أخته الحبيبة... أمله الدائم في حياه افضل... لقد التحقت بالمدرسة منذ
سنوات ثلاث .. ربما أربع ... لا يذكر جيدا ... ولكن ما يذكره جيدا أنها كانت
تلح علي والدتهما أن تعطيها جنيهات عشرين .. ثمنا لدروس التقوية
بالمدرسة ... لكم يحب هذه الصغيرة ... إنها اكثر الجميع شعورا به أو هكذ
يشعر ... كانت دائما تشجعه علي الرغم من صغرها ... وكان يري فيه
الأمل ... دائما ما يعجب من ذكائها حينما تشاكسه فيدعوها
(( سقراطه )) فتهرع خلفه بالوسادة ...
لكم يتمني أن تتفوق لتصبح ما لم يستطع أن يكون ...
إنها حقا تستحق الجنيهات العشرين بل هي اجدر الجميع بها ..
استدار وكأنما عقد العزم علي ما سيفعله ... ومع استدارته وقعت عيناه علي
الصيدلية الكبيرة التي تحتل واجهتها جزءا كبيرا من الشارع ... ولم تكد عينه
تطالعها حتى تذكر جده...
...................... ..................... ......................
( قاس هو الألم فيه من المذلة ما يقهر بلا تفريق ... ولكن غالبا ما يبقي القوي قويا في كل شيء .. حتى في دمعه وآلامه .. حتى ليخيل لك وهو يبكي وينتحب أن دموعه تلهب الأفق ..وكل زفرة من زفراته تستنزل غضب الله علي الأرض )
..................... ........................ .................
جده الذي انزوي في المنزل منذ زمن بعيد يفوق عمره هو ... سمع انه يعاني
من الروماتيزم الذي لا يدري كنهه .. ذلك الشيء الذي نخر عظامه و أبلاها
وطرحه عاجزا فوق كنبه عجوز يتقارب عمراهما تزيده ويزيدها قدما وعتقا
ليكمنا سويا في بهو البيت الضيق ...
تذكر صراخه حينما تفاجئه الآلام.. وتذكر معها علبه لدواء التي كتبها طبيب
المستشفي الحكومي والتي عجزوا عن شراءها جميعا .. أو أبوا
فالقوت اليومي ربما كان في رأيهم أهم ... حتما ثمنها سيأتي علي هذه
الجنيهات العشرين ؟؟؟
..................... ........................ .........................
تدافعت الصور بداخله ...
وراح السؤال يطرح نفسه علي باله بأحرف بارزه ...
تري ..
ماذا يفعل بهذه الجنيهات العشرين ؟؟
جلس فوق الرصيف .. وعقله يبحث عن أجابه .
طالع السيارات التي تتابع المسير في صمت كأنما لا يشعر لوجوده أحد أو
يكترث له ...!
شعر لأول مرة أن أصوات الأبواق العالية تخنقه وهو يحاول جاهدا أن يلتقط
أنفاس حيري كأنما خلا العالم من الهواء...
و لأول مره في حياته يشعر بأنه وحيد وسط الزحام ...!!!
تحامل علي عكازه ...
سار نحو منتصف الشارع دون أن يكترث لا بواق الإنذار المتعالية ...
نظر نحو الجنيهات العشرين في يده ... والتي أحالها العرق إلى ورقه
مبتلة ...
نظر نحو الصيدلية .. وقد تذكر آلام جده ...
ثم لم يلبث وجه والدته أن ملأ مخيلته ..
وهز رأسه في قله حيله وهو يتذكر أخته الصغرى و أمله الدائم في حياه
افضل ....
تابع بعينيه الزحام مرة أخرى...
وضم يده علي جرائده بقوه كأنما يتشبث بها ..
أرخى يده الممسكة بالورقة المالية ...
تركها تسقط فوق رصيف الشارع ...
حملها الهواء المنبعث من السيارات المسرعة بعيدا...
لم يستدر نحوها...لم ينتبه إلى الأيدي التي تدافعت تلاحقها...
اندفع إلى الأمام في إصرار ... وندائه المعهود يتعالي ...
أخبار .... أهرام ... جمهورية
قبل أن يختفي ...
هناك...
كما اعتاد دائما ...
... وسط الزحام ...
- تمت بحمد الله-
محمد الدسوقي ,,,