.. && ( الـ فجــــــــــــــــر) && ..
~ - ~ - ~
في فاتحة الريح ...
جلست كعادتها تحت تلك الشجرة على حافة البحيرة ،
تستجلب بعض السكينة وراحة النفس ...
فما أجمل أن يصادف المرء في فيافي العمر من حين إلي حين ،
واحة جمال يستروح في ظلها ويتريث عندها ،
فتكون مغنماً له تنسيه حلاوة الظفر بها ....
... مرارة السعي إليها ، ووحشة الجدب بدونها .
غرقت في تأملاتها ...
... حيث صحن القلب يمارس جهار البوح ،
تستعيد سنة من صروف حياتها في دورة الفلك ،
... كم هي دقيقة قياسها ... !!!
فلا تستبق واحدة منها يناير ،
ولا تتلكأ بها الخطا لما وراء ديسمبر ... !!!
وجميعها تتراقص وتيرتها مابين أفراح وأتراح
... رسمتها ريشة الزمن ...!!!
بينما هي تغالب دمعة شاردة .. تكاد تسقط ،
إذ بصوت قادم من ورائها ....
" هكذا نحن البشر ... كلما غلبتنا عجلة الزمن وصروفه ؛
نجد في اجترار الدمع متعة تفوق متعة الإبتسام ،
وفي رثاء النفس مأوى آمن ... !! "
ظنت أنها تتخيل ... فما تعانيه من ألم ،
تطحن أضراسه حبيبات التيقظ لديها ...
عادت لتأملاتها مرة أخرى ،
ترقب خطوط الفجر الأولى ومايحمله لها من أمل ،
... تتنفسه وتستشعر وهج الشعور الأول الساذج بالدهشة والعجب ،
فالنور يراق على كل شيء ... لا يضيئه فحسب ... !!!
اقتربت أكثر من صفحة مياة البحيرة ،
ترسم بإصبعها حركات دائرية ،
فتحدث دوامات صغيرة تتسع بزيادة حركة إصبعها ...
وكأنها تسجل توقعاتها لما يحمله لها ... اليوم الجديد ...
طالعت إنعكاس صورتها على مرآة الماء ،
تستشف تفاصيل ملامحها ...
جاء الصوت من ورائها مرة أخرى ...
" ترى بما أخبرتك مرآتك ... ؟؟ !!! "
هنا تيقنت أنها لم تكن تتخيل ،
وأن هناك من يحدثها صدقاً .... تلفتت وراءها بتوجس ،
وقد راودها الخوف عن البقية الباقية من سكينتها ... وكاد يفلح ،
آأأأه .... إنه ذلك الرسام المتأمل ،
لطالما راقبته خلسة وهو هناك على تلك الربوة المعشوشبة ،
يقف متأملاً الطبيعة ... كالذي يتمطى من سبات ،
صارفاً وجهه وصدره إلي الحياة يتنفس فجرها ،
وناظراً إلي السماء وقد فتر فيها توامض النجوم الباهتة ،
... ودائماً ماكانت تجزم ... أن خلفه سر قوي غامض ،
أجابته " كلما نظرت إلي مرآتي تلك ... خيل إليّ وكأنني أرسم ملامحي بنفسي
فأجدني أغوص بأناملي في الماء .. وكأنها ريشة الرسام بيدي ...!!!! "
ارتسمت على وجهه إبتسامة ساخرة .. وقال محاوراً
" ألا تجدين تناقضاً بليغاً في عبارتك تلك ... ؟؟ "
رفعت رأسها نحوه وعيناها نتطق بنظرات متسائلة ...
" كيف ... ؟؟!! أفصح ... ؟؟!! "
افترش العشب إلي جوارها وأشار إلى إنعكاس صورتها قائلاً :
" المرآة تريك حاضر أمرك ... ومايتفق لكِ ساعة النظر إليها
.... من فتور أو نشاط / من توقد أو خمود
.... نعم لذيذ هذا ، إلا أنه يخالف تماماً أن ترسمي لوحة تحمل ملامح وجهك "
أومأت برأسها وفي عينيها ذات النظرة ، تستحثه أن يكمل ...
ملأ صدره ببعض هواء الصبح كأنه يستمد منه .. قوة خفية ،
وكأن هناك حوار صامت دائر بينهما ... ثم تابع قائلاً :
" النفس البشرية صندوق أسرار ...
... وقد لايحب الإنسان أن يكشف عنه ويفتحه لعيون الناظرين ،
والرسام هنا ينقب ويفتش في سريرة النفس ؛
لينتزع منها سرها ويلقي بظله على الوجه "
علقت على كلامه متسائلة :
" وماذا يصنع الرسام إذا كان صاحب الوجه أحرص على ستر نفسه ،
من أن يدع عيني الرسام تنفذ إلى صميمها ؟؟ !! ...
وماحيلته إذا كان الجالس لا يريد أن يطلعنا على رأيه في نفسه ؟؟ !! "
أجابها مستسلماً : " لا حيلة البتة ! .. وهذا عيب الصورة ...
تجدينها وكأن عليها ستاراً غير مرسوم ... "
مد لها يده بلوحة من لوحاته وقال مبتسماً :
" ... هذه هدية مني لكِ ... فتاة الـ ... ( فجـــــــر) "
إنها لوحة تصورها وهي جالسة تحت شجرتها تلك ....
دققت فيها وكأنها ترى نفسها للمرة الأولى ... !!!
وفي عينيها نظرة تقول ...
... أنها وطن نفسها على هذه الحياة الضالة ،
إذ كان لا عهد لها بغيرها ولا حيلة لها من تغييرها ...
وملامح وجهها ماهي إلا صورة للصراع الهائل ،
الذي يدور بين هذه النفس الغضة وعواصف الحياة ...
ومرارة هذا العراك وفظاعته ، بين قوى شاكية مستعدة
وروح عارية عزلاء ..
مزجوج بها في آتون ليس لها نصير ،
لا من العلم / ولا من التجربة / ولا من الحلم ..
وفي نهاية اللوحة ... وجدتها مذيلة بكلمة ( الفجـــــــــر )
رفعت عينيها بإمتنان قائلة :
" من الرائع أن يحس الإنسان أن رساماً رأي فيه معنى ...
... يبعث عاطفته الفنية ويغريه بإبرازها ،
وأن يشعر أن نفسه ليست صفحة بيضاء خالية مما يستحق أن يقرأ
... بل كتاباً حقيقاً بأن تعبره العين وتنقب فيه ،
وتختزل ماحواه بين دفتيه في تقويسة هنا ،
أو ضغطة هناك ، أو لمعة يشيعها الرسام في العينين ،
و أن يعلم أن المعنى الذي لمحه الرسام ...
سيخلد على الأيام فلا يلحقه تغيير و لاتغدو عليه الصروف "
همَّ بالوقوف .. بينما احتضنت هي اللوحة ..
وكأنها عثرت فيها على الكثير مما كانت تفتقد ... وتبحث عنه
وانصرف هو ... متجهاً إلى ربوته .. غارقاً في تأملاته .
ـ ـ ـ ـ
هاميس