أهل الكهف
في البدء …في البدء كان اللاشيء ثم من ذرة غبار دقيقة تكونت الأشياء..تعاقب الليل والنهار..اخضرت واصفرت الأرض..عاش الإنسان الأول في الكهف هرباً من المجهول..ثم عاد إلى الكهف في آخر مراحل التطور..
توالت الأيام والسنوات وهم في الكهف نيام ، شبه أموات..سبعة كانوا أو هكذا تقول الأسطورة التي تناقلتها الأجيال ..تشرق الشمس وتغرب وهم يواصلون هربهم في الأحلام والأوهام..لقد حان الوقت لكي يستيقظوا..قاموا واحداً تلو الآخر ، ليحدقوا في الأجواء صامتين..كل منهم لائذ بكهفه الداخلي يحدث نفسه ويريد أن يفهم الأشياء من حوله…غطت إشارات استفهام ضخمة المكان فأظلمت الدنيا وهي بعد نهار…
*
الأول…
وقف أمام الكهف مستنداً بيده على حافته الخشنة الرطبة..نظر إلى الأفق حيث المدينة..رفع نظره نحو السماء الزرقاء، التمعت النجوم.. سار خارجاً من كهفه متجهاً نحو الأفق ،نحو المدينة التي تركها بالأمس أو قبل مئات السنين..أمام الأسوار رأى الكآبة وردة سوداء تنشب أشواكها على قلبه ، حاول الابتسام وفتح ذراعيه لاستقبالها..تذكر أحلامه المهترئة..أصابه حزن لا يدري كيف وصل إليه وراحت ذراعاه ترتجفان ،شعر بالبرودة تعتريه..سقط على الأرض جثة هامدة.. وغابت مع الغروب في بطون الضباع..أما الابتسامة فبقيت منحوتة على باب الكهف..
*
الثاني…
استيقظ..نظر حوله بعين كسولة..كانت شمس النهار تلقى أشعتها بعنف على وجهه..حاول النهوض لمعرفة إن كان الوقت حان لمواصلة الحياة..أمعن النظر من خلال شق صغير في جفنيه إلى العالم الذي فقد البريق الذي كان عليه قبل مئات السنين..شعر بالغثيان وأصابه صداع عنيف كأن آلاف الغربان تنعق في جمجمته.. تمتم محدثاً نفسه "لم يتغير شئ"..استلقى على ظهره نظر تجاه السقف الخشن..رأى خفاشاً مكوراً ومعلقاً بالسقف..شعر مرة أخرى بالغثيان والاشمئزاز يعتريه..بصق على الأرض ولعن العالم بمن فيه..وقال بصوت خافت" لا يزال الوقت مبكراً للاستيقاظ" تدثر بالكهف وأغلق عينيه ليواصل النوم..ربما بعد ثلاثة آلاف سنة قد يقرر الاستيقاظ لمواصلة الحياة ..وتحول إلى جذع شجرة نخرة..
*
الثالث…
أفاق هلعاً ..حملق في الذي حوله كأن حية لدغته للتو أو كأنه رأى كابوساً مرعباً لثلاثمائة سنة..ألقى بنفسه خارجاً من الكهف وهو يحاول أن يلتقط أنفاسه فتح ذراعيه ليستنشق هواءً نقياً يعيد الآمان إليه.. رغم ذلك ظل خائفاً ترتعش كل خلية فيه من الخوف..تضاربت التساؤلات في رأسه الصغير،راح الطنين يعلو في أذنيه..صرخ بهستيرية ومضى يجري بلا هدف..نحو أعلى الجبل مضى.. تعثر،راحت قواه تخور وعند القمة الحادة سقط تمرغ وجهه بالصخور والتراب الجاف..رفع رأسه نحو الأفق، رأى المدينة التي هرب منها زاد رعبه..هبت ريح ساخنة من وراء الجبل..وقف مترنحاً..ودون أن يفكر مرتين أو حتى مرة واحدة ..ألقى بما تبقى من جثته من أعلى الجبل إلى حيث القاع..تفتت الجسد وحملت ذراته الرياح الساخنة..
*
الرابع…
قبل أن تتم السنة الثلاثمائة مات الرابع ..لم يكن هذا بالشيء المهم لأن قصته لن تغير من مجرى الحكاية ..فبدونه تواصل الحياة تحركها..لقد انتهى الرابع قبل أن يبدأ..
*
الخامس...
امتدت يد معروقة نحيلة خارج الكهف..تسلل خارجاً..الجو بارد..ليلة باردة قبيل الفجر بقليل..صعد تلة رملية وقف عند قمتها رأى القمر بازغاً تأمله والتمعت عيناه بجنون..دارت نظراته عبر النجوم المبعثرة مثل حبات مطر لامعة..التمعت عيناه بجنون..تطلع إلى الصحراء الممتدة أمامه حمل ما تبقى من السنوات ومضى هائماً على وجهه يصارع الرمال..محاولاً الهروب من ذكرى الأمس أو مئات السنين التي مرت دون أن يدري.. عندما خسر المعركة..كان الألم حجارة بركانية حادة تحملها الرياح فتصدمه بقوة، مدمرة ما تبقى من الروح المحطمة..استمر بالسير نحو الشمس الغاربة لاعقاً آلامه محاولاً أن يجد شجرة عنب يستظل بها في هذا القفر..وظل يسكن في كهفه الذي يقبع بداخله…
*
السادسوالسابع…
…….علامات استفهام معلقة فوق رأسيهما والعديد من الأجوبة تبحث عن أسئلتها التي تدور بالداخل..تأملا الكهف..الزوايا الخشنة العشوائية..الأسطح المبعثرة بفوضى..بحثا عن أصحابهما فلم يجدا أياً منهم..هرب العنكبوت من داخل جمجمتيهما ونفضا غبار دبق ترسب على أفواههما …
-هل تدري كم لبثنا..؟ تساءل الأول..
تأمل الآخر المكان محاولاً أن يجد الإجابة عن السؤال..تعب من التفكير وراح يداعب التراب ويتركه ينساب من بين أصابعه مكوناً كومة دقيقة..
-لا أدري ولكن يبدو أننا لبثنا يوماً أو بعض يوم… أليس كذلك؟
-ربما..فبعد أحداث الأمس القريب ينتابني شعور أننا نمنا مئات من السنين؟
دوت كلمة الأمس القريب وطفقا يبحثان عن هذا الأمس المؤرق المنسي..اختلطت الصور بعضها ببعض..رؤوس كثيرة تملأ المكان..صياح،ألم..أعمدة مدلاة منها الحبال ورائحة الموت تنبعث..صوت صهيل الخيول ووقع حوافرها على الحصباء..غبار يتطاير مكوناً زوبعة..قهقهة الخوف المعشش في عين الشمس وقد عقد تحالفاً مع الماضي الذي لا يقتل..ارتعشت يد أولهما،نظر إلى عيني صاحبه الذي وقف قبالة مدخل الكهف..كانت عيناه ترسلان شعاعاً من التصميم والاندفاع..خشي أن يعود إلى تهوره المعروف به..
- انتهى بنا المطاف في كهف رطب يا صديقي… سكت قليلاً ثم تابع حديثه:-
-هل هذه هي الحياة التي أردناها..هل هي الحياة التي ناضلنا من أجل تحقيقها وتكبدنا من أجلها الخسائر في كل شيء هل هي…
عض على شفته السفلى وبريق الإصرار يزداد في عينيه..نهض الآخر وقف بجانبه يتأمل الأفق اللامنتهي..الأفق الذي أتوا منه،ورائه تقبع المدينة التي هربوا منها طلباً للنجاة..كان يقمع قهقهة الخوف بداخله بصعوبة بالغة..بلع ريقه وقال:
-لكننا كنا سنقتل إن لم نهرب..وأنت تعلم بأن كل شيء قد انتهى و..
- أصمت أرجوك..أن نموت خير لنا من أن نعيش مع العناكب وجرذان الصحراء..
أمسك بحجر كبير ورماه بكل قوته ناحية المدينة ..وقف ساكناً للحظات وكأنه يحاول أن يستجمع قواه من جديد.. ثم قال:
-أتدري بماذا أفكر ؟
لقد كان يخشى أفكار صاحبه العنيفة لكنه استجمع ذرات الشجاعة المتبقية وقال:
-بماذا تفكر؟
-أفكر في أن نعود إلى المدينة ونرى كيف أصبحت بعد أن مرّ الأمس القريب بأحداثه الجسام ونستطلع الأحوال هناك..
- ولكن..ولكن..
- ولكن ماذا ؟ ..أنظر إلى جيداً..يبدو أن الأصدقاء قد خرجوا إلى مكان قريب..سنذهب معاً ونعود بالأخبار وقد نجد طريقة لبدء كل شيء من جديد..
-ولكنني أخشى أن ذلك سيكون شبه مستحيل..
-أسمع جيداً سنذهب معاً ودعنا من هذا الحديث العقيم ولننطلق الآن…
ودون أي مقدمات وجدا نفسيهما متجهين نحو المدينة..
وأشرقت الشمس ،امتدت ألسنة اللهب تلفح الجسدين النحيلين في محاولة يائسة لمنعهما من مواصلة المسير نحو واحة السراب..أكملا درب الآلام حتى وصلا بوابة المدينة.. استغربا كم بدت مختلفة جداً عما تركاها بالأمس..بدت أكبر بكثير غدت مبانيها أكثر قبحاً ودماراً إلا بعضا من المباني الكبيرة الجميلة..الناس بدت مألوفة الوجوه إلا أن ملابسهم كانت مختلفة جداً ..ما الذي جرى..
-هل نحن في مدينتنا أم أننا ضللنا الطريق؟..
- لا أعرف..إنها هي ولكنها ليست كذلك أيضاً..أمر محير..ولكنني متأكد أنها مدينتنا..يبدو أن تغيرا قد طرأ بشكل غير قابل للتفسير…
استرعت هيئتهما الغريبة نظر الناس..أحسا بالخوف فلاذا بأحد الأزقة الجانبية ..وقفا لبعض الوقت محاولين استيعاب التغير الذي حدث بين الأمس واليوم..استندا على الجدار بظهريهما وأمتد بصرهما إلى الجدار المقابل..هناك لمحا شيئاً معلقاً عليه..ورقة..اقتربا منها..فرءا الورقة.. نظرا إلى بعضهما باندهاش ..لقد كانت الورقة تحوي صور لسبعة أشخاص تشبههم كثيراً ولكن هذا لم يكن غريباً..الغريب كان التاريخ..تاريخ هذا اليوم ..صرخا بصوت واحد..
-مستحيل..!!
اندفع حشد من الرؤوس الضخمة الخشنة من جميع الاتجاهات..أمسكت بهم من جمع أطرافهم..لم يتمكنا من المقاومة..لم يتكلم معهما أحد كأنهم كانوا ينتظرون هذه اللحظة ويعلمون أنها حتماً ستأتي ويعلمون ما سيفعلونه حينها..قيدوهم جُروهم على الأرض ومضوا بهم إلى الساحة العامة..بينما تكاثرت الرؤوس كالفطريات..أمتلأت الأجواء بالصرخات وانتشرت رائحة الموت..قرعت الطبول..ودون أي مقدمات ربط أحدهم بعمود تحته كومة من الحطب..أما الآخر فربط كل طرف من أطرافه الأربعة بحصان قوي..صاح:
-أيها الأوغاد اتركوني..سوف تندمون على فعلتكم..فلتحل عليكم اللعنة…فلتحـ…
اندفعت الأحصنة بقوة وفي لحظة لم يتبق منه سوى أشلاء ممزقة قذف بها إلى الكلاب..
اقتربت الحشود من المحرقة..
_ أرجوكم لا تفعلوا هذا بي..سوف أخبركم عن كل شيء..ماذا تريدون معرفة مكان الباقين..سوف أدلكم عليهم لكن اتركوني ..اتركوني..
ابتلع ما تبقى من كلماته فأمامه وعلى أعتاب المحرقة ألقى بستة رؤوس كانت تخص أصحابه أو بقاياهم..اشتعلت ألسنة اللهب وعلت في الجو رائحة لحم يشوى..نامت المدينة تلك الليلة وهي تحلم بالمطر والشمس والياسمين..أما في الأفق حيث الكهف فقد كانت الخفافيش تستعد لبدء ليلها الطويل…
* * *
من بوابة المدينة خرج واثقاً..بخطى وئيدة لا تعرف الخوف..خرج بعد أن شكروه على خدماته التي أسداها لهم بعد عشرات عشرات السنين التي تتابعت لقد تحصلوا أخيراً على ما يريدون وتخلصوا منهم إلى الأبد..خرج ثامنهم حاملاً مكافأته عاضاً عليها بأسنانه المدببة..خرج حتى وصل عند تلة الرمال البعيدة..ألقى بحمله على الأرض..راح يعوي تجاه القمر الأحمر الحزين..ثم مضى على قوائمه الأربعة حاملاً مكافأته..بقايا عظام أهل الكهف.
تمت