في لحظة ما مبهمة ابتدأت الحكاية في دهاليز الغيب . لا أحد يعرف كيف رتب الأمر ، و لا من كان السباق لعشق الآخر، و لا هل التوحد و الانسجام البادي للعيان هو نتاج ائتلاف و رضى ، أم أن الصدفة جعلت الواحد في طريق الآخر فلبسه و انطلقا زاحفين مخترقين ستائر الغيب في اتجاه ضياء الوجود.
فرحة الخلق غطت عن طبيعتهما و كنهيهما المتناقضين . لم يعرفا انهما جوهران مختلفان . لكن قبل هذا ماذا كانت الروح في الاصل ؟ فكرة تبحث عن ألفاظ ؟ احساس يبحث عن تجسيد ؟ جنوح مغامر تواق لمتاهة ؟ خلاص يبتغي ورطة ؟ أم كانت هدوءا مل سكونه ورغب في تحوله الى فوضى و بهرجة ؟
و الجسد ماذا كان في الاصل ؟ مقلب يستدرج ضحية ؟ تعفن يتربص بطهر ؟ أم وضيع يريد الارتقاء من حضيض يدرك قبل غيره ان لا مفر له منه ؟
الدفء الذي لف لحظة التزاوج اغتال كل الاسئلة وطمس كل أشكال التميز . و الحرارة العالية التي سرت في الاوصال أصهرت الاحاسيس و صنعت توحدا صار فيه كل شئ لبا و قشورا .
في زحفهما الاول كان الجسد لا يزال يعيش نشوة القدوم ، غير مدرك لطبيعته الفاسدة الفانية . و الشروخ بينه و بين ساكنه لم يكن لها وجود . جماله و هو يتأمل ذاته كان يجعله غير مصدق أنه داخل دورة تبدا من التربة ثم ترتقي للاعالي لتعود الى الاصل من جديد .أعضاؤه المتنامية ببطء وغرائزه لم تكن قد اكتشفت و ظائفها بعد . و لهذا السبب كانت الروح مطمئنة اطمئنانا يصل حد الانخداع بان مأواها لا يختلف عن مهدها القدسي الذي نزحت منه في رحلة البحث عن تأكيد طهرانيتها .
ما ساعدها في ذلك ترسانة التشريعات المنزلة و الوضعية المهوسة بلجم اندفاع الجسد اتجاه الاستجابة لغرائزه و تليبة نداءاتها . و الحد من اندفاعه في عشقه و كراهيته.
في المسار الذي قطعاه سويا لم يكن الايقاع مستويا . الروح لم تنس عالم ملكوتها ، تحن اليه و لا ترفع بصرها عن المسار الذي قطعته وهي في طريقها الى ذلك الهيكل . احيانا كانت لا تفهم لم فعلت ذلك ، لكنها لم تكن لتتمرد و تنتفض ما دامت تلك هي مشيئة الخالق . وعوضا عن ذلك كانت تحاصر الجسد . تغلق باحكام ازرار ملذاته التي كانت تجذبه الى عالمه الفاسد المعجب به حد الافتتان .تذكره بالخلود ، بالشمس التي لا تغيب ، بالملذات التي لا نهاية لنشوتها .
الجسد كان يتلهف لرؤية موصوفاتها ، أنذاك كانت تدله على الوصفة . العطش طريق الارتواء . الجوع طريق الاشباع . قهر نزوات النفس طريق الخلود في الملذات .
خطاب الروح كان يصل الجسد . ومدفوعا بالاوامر التي تتناهى اليه من كل صوب ، كان يذعن و يغلق حواسه ، يقمع تطلعاته . عند ذاك كان ينطوي ، يهزل ، يشحب ، يمني نفسه باللذة المطلقة و الازمنة الخالدة .
في لحظات أخرى كانت عيون الجسد تنفتح . تتصاعد منه حرارة تحدث غشاوة فيهرع مستجيبا لنداءات قوية تستفز غرائزه .خلاياه كانت تنصهر بالحرارة التي كانت تتصاعد من داخله فيبطل مفعول التبصر . ينهزم امام المفاتن التي يسير في ركابها شبه نائم . ينهل منها بشراهة . يغرم بالاجساد . يطرب للملذات . يسقي ربوعه المتعطشة الشبقة . يصحو في لحظة ارتواء . ينظر الى العدم ثم يغفو .
صراخ الروح كان يدوي . الروح كانت تتعذب وهي تنظر لطهرها يتلوث في مستنقع الجسد . قدسيتها تنتهك . طرق عودتها الى الملكوت تنغلق .
الجسد على العكس كان يتقوى . يزدادا جمالا و اندفاعا لينغمس في ملذاته .وفي لحظة ما بدا استمرار الزواج مستحيلا بعد ان ادركت الروح انه لا يمكن لها ان تستمر مع شريك وضيع فاسد فقالت مخاطبة الجسد :
- يا جسد .
- اي نعم يا روحي .
- اين نحن من الشمس الآن ؟
- هي في الأعلى و نحن في الاسفل .
في وقت آخر قالت الروح : أين الشمس الآن يا جسد ؟
- هي في الجهة الأخرى .
- أية جهة .؟ قلت من قبل هي في الاعلى ، فهل هي الآن في الاسفل ؟
- لا أدري .
- هل الارض في الفوق و الشمس في الاسفل ؟
أحس الجسد بغرابة حوار الروح ، فقال مستفسرا : ما بك يا روحي ؟
- أنت لك ثقل و تخشى من السقوط ، لهذا انت ملزم لتحديد مواقع و اتجاهات انا لا اعرفها و لا تدخل في اصطلاحي .
ازداد الجسد استغرابا من منطق الروح ، وبدا ان اواصر التواصل تنقطع بينه و بين الروح وقال : لم أفهم .
- أن لا تفهم هذا هو الشئ العادي .
صمت الجسد فأضافت الروح : أنت شئ له تجسيد ، لذا انت تلمس و ترى ، تبرد و تسخن ، تخدع و تخادع .
رد الجسد مقاطعا : هل تعنين انك من طبيعة اخرى ؟
- هذا ما اروم اليه بالتحديد .
رد الجسد مندهشا : لماذا الآن بالتحديد يا روحي ؟ لماذا لم تفكري في هذا من قبل ؟
- وهل انت نفسه الذي كنت من قبل ؟
تفحص الجسد ذاته . انتبه لخطاه . للصويت المنبعث من داخله . فقالت الروح : آن لكل واحد ان يعود لطبيعته .
رد الجسد مذعورا : الى اين ؟ الى العدم ؟..لا .. لا تفعليها يا روح ..اللعنة على تلك الافعى التي ابتلعت العشب .
- تلك مجرد خرافة تعبر عن رغبة . و الحقائق لعلمك لا تمتثل للرغبات . ثم لا تنس ان هناك حقيقية حتمية وهي ان كل شئ فان ، و ان كل شئ يعود لطبيعته .
قال الجسد : أنت طبيعتي و أنا مأواك .
- بماذا تحاول أن تقنعني ؟ بل بماذا تحاول أن تقنع نفسك ؟ من تغالط يا جسد ؟
رد الجسد : لينقطع نحب من هو غيري و غيرك .
ضحكت الروح و قالت : كم تبدو مثيرا للشفقة و أنت ضعيف .
- لا ..لست ضعيفا . قد تكون قواي و هنت لكني استعضت عنها بقوة العقل . امتحنيني ان شئت .
- ماذا امتحن ؟ الحيلة دليل ضعف .
- من قال ذلك ؟
- قالتها الحياة الفانية و الحقائق الممقوتة .
- أقلت الحقيقة ؟ أية حقيقة ؟ قبل اليوم كنت هادئة داخلي فأين هذا الثابت في هذا الكون المتحول لنحتكم اليه ؟
- ها قد قلت ذلك بلسانك . لهذا ارتخ و افتح مسامك و اكتم انفاسك ودعني استجيب لنداء اقوى من الحقائق التي تمتلكك .
- اللعنة على لساني . ارجوك . لا احب الاندثار . انا اكره الأفول . ثم اين اذهب ؟ اتفسخ في هذه التربة المتعفنة ؟
- تلك حتميمة لا سبيل الى عنادها .
- انا ارفض هذه الحتمية . اتمرد ضد هذه الحقيقة . لا حقيقة تسمو على حقيقتي .
- لكن ما في وسعك ان تفعل ان كانت حقيقتك مثلك هي الاخرى فانية .
- انا اضرب ضدها . لن افتح مسامي . لن اكتم انفاسي . لن افتح لك اي معبر للرحيل .
تعالى الصياح . تناهى الى ملك الموت . قرر فك النزاع .أدخل يده الى عمق الجسد . اخرج الروح و كتم أنفاس الجسد







--------------------------------------------------------------------------------

التوقيع